مقالات وآراء

الأستاذ الجامعي: العمود الفقري للنهضة العلمية ورسالة العلم المغمورة في زمن الانحراف والتجاهل

جريدة الصوت

بقلم الدكتورة بسمة محمد السيد حمودة

دكتورة جامعية كلية الاقتصاد المنزلي جامعة العريش

في زمنٍ اختلطت فيه المعايير، وتقدَّم التافهون للصدارة بينما تراجع العظماء إلى الظلال…

يظل الأستاذ الجامعي هو البطل الحقيقي الذي لا يُصفَّق له،

ولا يُحتفى به، رغم أنه من يصنع المجد الحقيقي للأمم.

هو ذلك الشخص الذي لم يختر الثراء ولا الشهرة، بل نذر عمره للعلم،

وآثر أن يكون حامل الشعلة في طريقٍ مظلم،

لا يُمهد له بالسجاد الأحمر، بل بالأشواك والصمت.

 

ليس موظفًا يؤدي مهامًا روتينية، بل رُكن من أركان النهضة،

وزارع الوعي في أرضٍ عطشى للمعرفة.

ورغم عظمته، لا تُكتب عنه القصائد، ولا يُكرَّم على الفضائيات،

بل يُمرُّ عليه مرور الكرام، كأن ما يفعله لا يُعد من الإنجازات.

 

ورغم هذا الجحود، لا ينكسر، بل ينهض كل صباح يحمل همّ الأمة،

ويرتدي عباءة المسؤولية، ويرى في كل طالب مشروع أمل…

 

هو الأستاذ الجامعي، صانع الأجيال المنسي…

ومحرّك عجلة الحضارة الذي لم يتوقف يومًا عن الدفع،

وإن لم يُذكر اسمه في نشرات الأخبار.

الأستاذ الجامعي الذي يخاف الله في كل تصرفاته،

يدرك أن العلم أمانة ثقيلة ومسؤولية جسيمة لا تقبل التهاون أو النفاق.

خشية الله تُشعل في قلبه نور الصدق والأمانة، فتراه في قوله وفعله،

في تعامله مع طلابه وزملائه، وفي كل قرار يتخذه، يتصرف بتقوى ورزانة.

إنه يعلم أن الله يرى ما تخفي الصدور، فلا يرضى لنفسه أن يظلم أو يخدع أو يفرّط في علمه،

بل يبذل كل جهد ليكون نموذجًا يُحتذى به في العلم والأخلاق.

بخشيته لربه، يُلهم طلابه ليس فقط ليكونوا علماء، بل أن يكونوا أصحاب

خلق رفيع وتقوى دائمة، حاملين شعلة العلم والنية الصادقة.

في صمت الليل الطويل، يعيش الأستاذ الجامعي معاناة لا تُرى،

تلتهم وقته وروحه، فتتلاشى حياته بين أوراق الأبحاث وأحلام العلم التي لا تنتهي.

هو يسير على طريق وحيد، محفوف بالصعاب والجهود التي لا تنال التقدير،

بينما ينشغل المجتمع بتفاهات تلهيه عن جوهر الحقيقة.

في زمنٍ صار فيه الانحراف والرقص وأغاني الترندات تُحتفى وتُكرم،

بينما أستاذ العلم يُنسى ولا يُعطى حقه،

كأن العلم عبء ثقيل على قلوب الناس،

وتلك التفاهات باتت هي المعيار والمقياس،

وصار المحتوى السطحي له بريق أكثر من نور المعرفة.

لا يعرف الابتعاد عن العلم، وكأنه حُرم من النفس نفسه إذا أبعده عنه،

فكل لحظة يقضيها بعيدًا عن المعرفة هي لحظة اختناق وفقدان لهويته.

إنه إنسان اختار أن يضحي بحياته الشخصية، كي يكون جسرًا يصل بين الماضي والمستقبل،

لكنه في هذا الطريق يظل وحيدًا، تُطاله نيران الجهل،

ولا يجد من يُصفّق له سوى ضميره المثقل بالعطاء.

 

 

في زحام الحياة الأكاديمية، يقف الأستاذ الجامعي وحيدًا…

يُحمّل على كتفيه عبء المعرفة، وأمانة التكوين، ومسؤولية بناء عقول،

في زمنٍ تهاوت فيه القدوات وتداخلت فيه الأدوار.

 

هو ليس موظفًا يؤدي ساعات عمل، بل صانع أجيال،

يُعيد تشكيل وعي الأمة بصبرٍ لا يُرى، وجهدٍ لا يُقاس، وثمنٍ لا يُدفع.

حامل المشعل في العتمة يدخل ساحة العلم لا ليُكرَّم، بل ليُختبر كل يوم.

 

كل درجة علمية يحصل عليها، لا تُهدى إليه، بل يُنتزعها من تعب روحه،

من سهرةٍ طويلة أمام شاشة صامتة،

ومن بحثٍ كتبه ألف مرة، ثم مزّقه ليبدأ من جديد.

يتعامل مع عقول مختلفة، وطبائع متناقضة، وبيئات متباينة،

ويُطالَب في كل لحظة أن يكون قائدًا، طبيبًا نفسيًا، مصدر إلهام، وبوصلة أخلاقية.

 

وفي الوقت الذي يُسارع فيه الجميع إلى منصات الشهرة والربح السريع،

يختار هو أن يبقى في الظل، يُضيء للناس طريقهم… ويحترق بصمت.

 

الجامعة ليست مكانًا هادئًا كما يبدو… بل هي ساحة صراع صامت: ترقيات مؤجلة،

تحكيمات لا تعرف الرحمة، لجان لا تعترف بالمجهود،

وقرارات تُبنى أحيانًا على غير أساس.

 

 

ورغم كل ذلك، يُطالَب الأستاذ الجامعي أن يبقى مثاليًا: حاضرًا في كل لجنة،

متجددًا في كل قاعة محاضرات، متسامحًا مع طلابه،

صبورًا مع زملائه، مبتسمًا دائمًا… حتى وإن كان في داخله يئن من ضغطٍ لا يُطاق.

 

ومع كل هذا العطاء، لا تقدّره الدولة مادياً ولا معنوياً.

فمكانته العلمية ومجهوده الجبار لا يترجمان على راتبٍ يُناسب قيمته،

ولا امتيازات تُليق بحجم مسؤوليته. رغم أنه قلب التعليم النابض،

ونبراس النهضة، إلا أن الواقع يكتم صوته، وينسيه المجتمع.

لكنه، وبكل كبرياء، يظل ثابتًا، رافع الرأس، يؤمن بأن قيمته ليست في المال،

بل في الأثر الذي يتركه في نفوس الأجيال، في العقول التي يفتحها،

وفي الحضارة التي يبنيها، بيده وضميره.

 

التكريم الحقيقي لا يُمنح… بل يُترك أثرًا.

لا تنتظره كاميرات، ولا تلاحقه الجوائز، لكنه حين يزرع في طالب بذرة حلم،

وحين يرى في عينيه شعلة فهم… يُدرك أن كل ما مرّ به لم يكن عبثًا.

يكفيه أن يقول طالبٌ بعد سنين: “هذا الأستاذ غيّر مجرى حياتي.”

الأستاذ الجامعي ليس مجرد حامل لشهادة، بل حامل لرسالة،

لا تُعلَّق على جدران القاعات بل تُنقش في ضمائر الأجيال.

 

هو المناضل بصمت، المقاتل بلا سلاح، والعظيم الذي لا تُكتب عظمته في عناوين الصحف،

بل تُخلّدها العقول التي أيقظها، والأرواح التي أضاءها، والأمم التي نهضت على أكتاف علمه.

 

هو الواقف على ثغر الفكر، يحرسه من التزييف، يذود عن الحقيقة،

ويزرع الوعي في تربةٍ عطشى… وهو يعلم أنه قد لا يُذكر،

لكنه يوقن أن الأثر لا يحتاج تصفيقًا، بل يحتاج صدقًا.

 

 

فيا من تقرأ، إذا التقيت يومًا بأستاذ جامعي… فقبّل بوعيك جبينه،

وامنح بصمتك إجلالًا… فأنت أمام من صاغ مجد الأمة بمداد العلم لا بزخرف الكلام.

أنت أمام من لا يُصفَّق له… لأنه هو من يعلّم التصفيق للصواب.

تحياتي لكم

الدكتورة بسمة محمد السيد حمودة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock