لم يعد حلم استعادة رأس الملكة نفرتيتي أو حجر رشيد مجرد رغبة ثقافية، بل تحوّل إلى قضية وطنية تخوضها مصر بكل عزم، لتعيد كتابة فصول من تاريخها المسلوب وتسترد روح حضارتها التي جابت متاحف العالم لقرون.
تشهد مصر حراكاً دبلوماسياً وثقافياً واسعاً لاستعادة آثارها المنهوبة، في وقت أعلنت فيه وزارة الخارجية نجاحها في استرداد 36 قطعة أثرية من نيويورك، مؤكدة أن الدولة المصرية لن تهدأ حتى تعود كل قطعة خرجت من أرضها بغير حق إلى حضن الوطن.
المعركة اليوم ليست حول تماثيل أو حجارة، بل حول كرامة أمة كتبت تاريخ الإنسانية على ضفاف النيل، وسُلبت أجزاء من روحها خلال فترات الاستعمار وضعف الوعي بقيمة التراث في العصور الماضية.
فبين حجر رشيد المعروض في المتحف البريطاني، ورأس الملكة نفرتيتي في برلين، وزودياك دندرة في باريس، تسعى القاهرة إلى إعادة أهم رموز الحضارة المصرية التي خرجت من البلاد في فترات تاريخية شهدت غياب القوانين الصارمة لحماية الآثار.
تاريخ خروج الآثار من مصر معقد ومتشعب، فبعض القطع غادرت البلاد بقرارات رسمية زمن الاحتلال البريطاني، حين كانت قوانين التنقيب تسمح بتقسيم المكتشفات بين البعثات الأجنبية والحكومة المصرية، بينما هُربت قطع أخرى بطرق غير شرعية.
ومع تطور التشريعات من منتصف القرن التاسع عشر وصولاً إلى قانون حماية الآثار لعام 1983 وتعديلاته عام 2010، أصبحت ملكية أي أثر مكتشف في مصر حصرية للدولة، وتم تجريم الاتجار أو الحفر دون ترخيص رسمي.
ومنذ تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي الحكم، شهد ملف استرداد الآثار زخماً غير مسبوق، حيث تشكلت لجنة وطنية متخصصة للعمل على المطالبة القانونية والدبلوماسية بعودة الآثار المهربة، وهو ما أثمر عن نجاحات متتالية، من أبرزها استرداد التابوت الذهبي للكاهن “نجم عنخ” عام 2016.
كما عززت الدولة المصرية حجتها أمام العالم بإنشاء وتطوير عدد كبير من المتاحف القومية الحديثة، مثل متحف الحضارة المصرية والمتحف المصري الكبير، ما أنهى مزاعم بعض المتاحف الأجنبية بعدم قدرة مصر على حفظ تراثها.
وتسعى الحملة المصرية الحالية لرفع الوعي الشعبي بقيمة التراث الوطني، وحشد الدعم الدولي لاستعادة القطع الأثرية المسروقة، في إطار رؤية شاملة تعيد لمصر مكانتها التاريخية كحاضنة للحضارة الإنسانية الأولى.
المعركة طويلة، لكنها بدأت بخطى ثابتة، ورسالة مصر واضحة: لن يهدأ لنا بال حتى تعود نفرتيتي وحجر رشيد وكل أثر مصري إلى أرض الوطن.