
كان ظهورها في بلاط الخلافة الأموية بالأندلس إيذانًا بنهايتها، اعتبرها البعض من بين أسباب ضيعة الخلافة والحجر عليها من قبل الحاجب المنصور بن أبي عامر، وهو ما أفضى في نهاية المطاف إلى دخول الأندلس لعصر ملوك الطوائف، وتفكك وحدة الأندلس.. إنها الجارية صُبح البشكنجية، زوج الخليفة الحكم المستنصر، وأم ولده هشام المؤيد. ظهرت الجارية صُبح البشكنجية في بلاط الخلافة الأموية في أوائل عهد الخليفة الحكم المستنصر بالله (355-266هـ)، ولا يُعرف عنها سوى أنها جارية جُلبت من بلاد البشكنج (إقليم الباسك حاليا)، وهو إقليم واسع يمتد عبر جبال البيرينييه الغربية (البرانس) على الحدود ما بين فرنسا وإسبانيا وتصل مساحته لحوالي 20 ألف كم2. أما الخليفة الأموي الحكم المستنصر، فقد تبوأ عرش الخلافة الأموية بالأندلس بعد وفاة أبيه العظيم عبد الرحمن الناصر، الذي حكم الأندلس لخمسين عاما بين عامي (300-350هـ)، جاعلاً منها دولة عظمى في سائر أوروبا، فأخضع ممالك إسبانيا المسيحية، ودفعت له الجزية، وكانوا يأتون إلى قرطبة يقبلون يده من أجل إقرار السلام معهم.
والحكم المستنصر، إن لم يكن خليفة لأصبح واحدًا من كبار علماء عصره، فقد كان محبًا للعلم، ضليعًا في معرفة الأنساب، وملأ الأندلس بجميع كتب العلوم، حتى أن خرانة كتبه كان لها 44 فهرس كل منها يحتوي على 50 ورقة تحتوي سوى على أسماء الكتب التي بالخزانة، وقلّما خلا كتاب في مكتبته إلا وعليه تعليق بخط يده، وكانت هذه التعليقات موضع تقدير واستفادة من العلماء الذين عاصروه وأتوا بعده، فاعترفوا له بالعلم وسعة الاطلاع.
وقد بذل الحكم الكثير من الأموال لاقتناء تلك الكتب التي كان يبعث رسله للبلدان لجلبها. ولما ضاقت مساحات القصر عن استيعاب العدد العظيم من الكتب الواردة إليها باستمرار، أنشأ الحكم على مقربة من القصر مكتبة قرطبة، التي وصلت محتوياتها إلى 400 ألف مجلد، وبلغ اهتمامه بفريد الكتب أنه بعث لأبي الفرج الأصفهاني بألف دينار، ليحصل على نسخة منه.
وكانت لا تحتوي سوى على أسماء الكتب التي بالخزانة، وقلّما خلا كتاب في مكتبته إلا وعليه تعليق بخط يده، وكانت هذه التعليقات موضع تقدير واستفادة من العلماء الذين عاصروه وأتوا بعده، فاعترفوا له بالعلم وسعة الاطلاع.
وقد بذل الحكم الكثير من الأموال لاقتناء تلك الكتب التي كان يبعث رسله للبلدان لجلبها. ولما ضاقت مساحات القصر عن استيعاب العدد العظيم من الكتب الواردة إليها باستمرار، أنشأ الحكم على مقربة من القصر مكتبة قرطبة، التي وصلت محتوياتها إلى 400 ألف مجلد، وبلغ اهتمامه بفريد الكتب أنه بعث لأبي الفرج الأصفهاني بألف دينار، ليحصل على نسخة كتاب الأغاني قبل أن يشيع في العراق.
حينما أفضيت الخلافة إلى الحكم المستنصر كان كهلاً في الخمسين من عمره، وكانت صفاته الجسدية لا تظهر جمالاً يُذكر، فقد كان بحسب وصف المؤرخين«أبيض مشربًا بحمرة، أعين، أقنى، جهير الصوت، قصير الساقين، ضخم الجسم، غليظ العنق، عظيم السواعد، أفقم (أي لا تطابق أسنانه العُليا مع السفلى)، وحين رأى هذه الجارية شُغف بها أيما شغف، وكان يُدللها باسمها الباسكي (أورورا.. أي نور الصباح)، وحظيت لديه خاصة بعدما أنجبت له ابنه الأول عبد الرحمن عام 351هـ، لكنه توصغيرًا، ثم ما لبثت أن أنجبت له ولده هشام.
منذ ذلك الوقت، أصبحت صبح نافذة الكلمة، مرهوبة الجانب، تتدخل في تقرير مصائر الرجال، تعين الوزراء وتنعم على الحاشية، فخشاها الوزراء والحجاب، والفتيان الصقالبة من حرس الخليفة وخاصته، وباتت من مراكز القوة في الأندلس.
كان لصبح الدور الأكبر في تقديم محمد بن أبي عامر، فتى الأندلس الذي جاء من غمار الناس، حيث وُلد في حصن طُرش بالجزيرة الخضراء جنوب الأندلس، وطلب العالم في مسجد قرططبة، واستطاع بالعلم والحلم والدهاء والطموح أن يُصبح حاجب الأندلس، والكلمة العليا فيها، بل وفي سائر أوروبا.
في البداية جلس ابن أبي عامر في كتابة الرسائل أمام بوابات مدينة الزهراء، عاصمة الخلافة الأموية، ثم ما لبث أن يحظى برضا صبح، حين أصبح ناظرا للخاص الذي يضم أملاكها وأملاك ولدها، ولي العهد، وهذا ما أهله لتنصيبه في مهام كبيرة بعد إعجابها بذكائه ومواهبه، وتواترت رويات المؤرخين التي تصف صبح بأنها باتت أسيرة لحب ابن عامر ووقعت في حبائله.
كان ابن أبي عامر وزيرا من أقوى وزراء الحكم المستنصر، لكنه لم يكن بالرجل الذي يستطيع مزاحمته، فقد تمرس في الملك والحكم، حيث مارسها في حياة أبيه، بل كثيراً ما ندبه الناصر لمباشرة المهام والشؤون الخطيرة، لذا كان خليفةً حكيماً، واشتهر الحَكَم بحبه وولعه بالعلوم والآداب وتقديره الشديد للعلماء، ولم يعطِّله ذلك عن مواجهة الممالك الإسبانية، فقد تعددت غزواته على ممالك وقلاع ومدن الإسبان.
لكن الحكم المستنصر جُبل كعادة الملوك من قبله على حب الولد، فقدم ابنه هشاما المؤيد، وكان حين توفي المتنصر فتى في الثانية عشرة من عمره، وأبعد اخوته من البالغين القادرين على الحكم، وهكذا رحل المستنصر تاركًا خلفه خليفة صبي، ووزير شؤون طامع ووزير طامع، وامرأة تدير من خلف الستار.
بعد وفاة الحكم، لم تمض أيام حتى أصدر الخليفة الجديد مرسومًا بتعيين جعفر المصحفي حاجبًا وترقية ابن أبي عامر لرتبة الوزارة، توطّدت العلاقات بين صبح وابن أبي عامر، حتى أصبحت سيرتهما تتناقلها الألسنة، ورددتها ألسنة العام مكّنت صبح محمد بن أبي عامر من تولي كل سلطة وكل أمر، مما ساعد ابن أبي عامر على إزاحة منافسيه على السلطة الواحد تلو الآخر، فتخلص من الفتيان الصقالبة، ثم أزاح الحاجب جعفر المصحفي وزج به في السجن، ثم نجح ابن أبي عامر بمساعدة صُبح في التخلص من القائد غالب الناصري، قائد جيش الحلافة الأموية في الثغور، واصبح المنصور يخرج بنفسه على رأس الغارات والحملات التي شنها ضد الممالك الإسبانية، وهذا ما أكسبه شعبية كبيرة بين العامة



