
في زمنٍ تتسارع فيه الأحداث وتضجُّ فيه الشاشات بالألوان والضوضاء، تراجعت الأسرة عن دورها الأصيل، ذاك الدور الذي كان يصنع الإنسان قبل أن يصنع المواطن. كانت الأمُّ مدرسةً فعلًا، وكان الأبُّ ميزانًا للحقِّ والعقل، وكانت الكلمة الواحدة في البيت دستورًا تربويًّا لا يُكسر.
أما اليوم، فقد غاب الحنان خلف شاشات الهواتف، وذابت الهيبة في زحام الرفاهية المزيّفة، وصار الأبناء يتلقّون تربيتهم من “المؤثرين” و”التريندات” لا من دفء أحضان الأمهات، ولا من حزم الآباء. انفرط العقد الذي كان يجمع القلوب حول مائدة واحدة، وتحولت الأسرة من حضنٍ إلى فندقٍ مؤقتٍ، يجتمع فيه الناس جسدًا ويفترقون روحًا.
وحين غاب التوجيه، سادت الفوضى؛ وحين تراجع الضمير الأسري، خرج للمجتمع جيلٌ مشوشٌ لا يعرف أين يقف، ولا يدرك من هو. فالمجتمع الذي يفقد أُسرَه المتماسكة، يفقد عموده الفقري، وتهتز قيمه وأخلاقه مهما علت الشعارات.
الأسرة ليست جدرانًا وسقفًا، بل رسالة ومسؤولية، تبدأ من كلمة حانية وتنتهي بسلوك يُحتذى. إنَّ من أراد وطنًا قويًّا، فليبدأ من البيت، ومن أراد إصلاح المجتمع، فليُصلِح أسرته أولًا.
فما أحوجنا اليوم إلى عودة المربّي الحقيقي، الأب الذي يغرس، والأم التي ترعى، ليعود النور إلى الوجوه، والسكينة إلى البيوت، والضمير إلى الشوارع.