مقالات وآراء

ذاكرة المكان

بقلم: رمضان محمد

 

 

كلُّ مكانٍ مررنا به، يحمل في جوفه حكايةً تخصّنا، حتى وإن غادرناه منذ زمنٍ بعيد. المكان ليس جمادًا كما يبدو، بل كائنٌ يتنفّس بذاكرةٍ لا تشيخ، تُخبّئ في جدرانها أصواتنا، وفي هوائها ظلَّ خطواتنا، وفي زواياها أسرارًا لا يقرأها سوانا.

 

أحيانًا نمشي في شارعٍ مزدحم، فتهبّ علينا نسمة تشبه رائحة بيتٍ قديمٍ سكناه، فنرتبك كما لو أننا التقينا بوجهٍ عزيزٍ غاب طويلاً. تلك هي ذاكرة المكان، تفتح لنا أبوابها دون موعد، وتعيدنا لحظاتٍ إلى ما كنّا عليه ذات يوم.

 

تعلّمتُ أن المكان لا يُنسى بسهولة، لأنه أوّل من صدّق حكاياتنا الصغيرة، وآخر من يودّعنا بصمت. هو الذي رأى دموعنا دون أن يسأل، واحتضن ضحكاتنا دون أن يشاركها أحد. في كل زاويةٍ منه ذكرى تتكئ على الحائط، ودفءٌ يسكن بين الألوان والروائح والأصوات.

 

هناك مقعدٌ خشبي في فناء المدرسة ما زال يحتفظ بضحكة طفلٍ كان يكتب حلمه على دفترٍ صغير. وهناك شرفةٌ في بيت العائلة كانت تراقب غروب الشمس كل مساءٍ بصبر الأمهات. وهناك مقهى قديمٌ ما زال يخبّئ بين جدرانه همسات الأصدقاء، وشيئًا من أحاديثهم التي لم تكتمل.

 

المكان، في جوهره، مرآةٌ لذاكرتنا نحن. حين تتغيّر ملامحنا نراه مختلفًا، لا لأنه تبدّل، بل لأننا نحن الذين غادرنا صورنا القديمة. لهذا حين نعود إلى البيت القديم بعد سنين، لا نجد الطفولة في الجدران، بل في أعماقنا نحن. المكان يذكّرنا فقط بما كنّا نحلم به، ويبتسم لنا كمن يعرف سرّنا كلّه.

 

فليس في الخرائط وحدها تُرسم الأماكن، بل في القلب أيضًا، حيث تسكن المدن التي أحببناها، والبيوت التي آوتنا، والمدارس التي ربّتنا على أول الحروف.

 

إنّ للمكان روحًا خفيّة، لا تُرى ولكن تُحسّ. روحٌ تُشيع فينا طمأنينةً حين نعود إليه، أو تُثير فينا شجنًا حين نغادره. تلك الروح هي التي تجعلنا نقول: “اشتقتُ للمكان”، ونحن في الحقيقة نشتاق لأنفسنا التي كنّا عليها في ذلك المكان.

 

وكم هو جميل أن ندرك أن الأمكنة لا تموت، بل تتوارث الذاكرة بين أركانها، كما تتوارث الأجيال الحكايات. كلما مشينا في طريقٍ قديمٍ تركنا فيه أثرًا، أضفنا سطرًا جديدًا إلى سيرة المكان، وسيرة الإنسان.

 

فذاكرة المكان ليست مجرد حنينٍ إلى الماضي، بل شهادة حبٍّ للحياة كما عشناها، بكل ما فيها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock