أمير الفرسان.. «أسامة بن مُنقذ» حارب الصليبيين 80 عامًا ووصفه صلاح الدين بشاعر الأمة وفارسها
جريدة الصوت

هناء الصغير
أجمع المؤرخون أن ما من مؤرخ استطاع أن ينفذ إلى أعماق الصليبيين خلال حملاتهم الصليبية على المشرق، مثل أمير الفرسان أسامة بن منقذ، الذي كان لامتداد عمره لنحو قرن من الزمان أثره في معرفة القوم في فترات الحرب والهدن، وقد قدم في كتابه “الاعتبار” صورة حية لحياة الصليبيين في الشرق.ولد الأمير أسامة بن مُنقذ في 27 جمادي الآخرة عام 488هـ/ 3 يوليو 1095م، لأسرة عريقة كانت تحكم قلعة شيزر، التي تقع بالقرب من مدينة حماة الشامية، لُقب بـ “مؤيد الدولة”، وأبو المظفر.
كان أسامة بن منقذ فارسًا ومؤرخًا وشاعرًا، كان عمه سلطان أميراً على بلد شيزر، نشأ فيها في وسط أسرته من بني منقذ، وهي أسرةٌ معروفةٌ بالعلمِ والأدبِ والفروسيةِ، وكانوا ملوكَ شيزر منذ أن اشتراها جدُّه سَديدُ الملك عليّ بنُ مقلَّد سنة 447هـ/ 1055موشارك أسامة بنفسه في قتال الصليبيين مراتٍ كثيرة، إذ حارب مع أسرته في شيزر أولاً، ثم حارب تحت قيادة الأمراء عماد الدين زنكي، وابنه نور الدين محمود، وصولاً إلى عهد السلطان صلاح الدين الأيوبي، حيث كان أحد أبرز قادته.
استطاع الأمير أسامة بن منقذ بفضل خبرته العسكرية وطبيعته الدبلوماسية تكوين شبكة معقدة من العلاقات، مكنته لأن يكون سفيرًا بين عدة دول في الشام ومصر والمغرب، وطاف بالكثير من البلدا، فقد كان رسول السلطان نور الدين محمود إلى الخلفاء الفاطميين بالقاهرة، كما أرسله السلطان صلاح الدين الأيوبي رسولاً إلى المنصور، خليفة الموحدين في المغرب، لطلب العون، وتذكر المصادر الأدبية أن الخليفة المنصور أعطى لابن منقذ ألف دينار لكل بيت من قصيدة مدحه بها وتضم أربعين بيتاً.
لقد أحدثت الحروب الصليبية اتصالاً حضاريًّا لا شك فيه بين الشرق الإسلامي والغرب الصليبي في زمن قامت فيه الحواجز العالية بين الشعوب والثقافات المتغايرة؛ لذا عد المؤرخون تلك الحروب من المعابر التي عبرت من خلالها الثقافة الإسلامية الرفيعة إلى أوروبا الأشبه بالبربرية في العصور الوسطى، لكن كان ذلك الاتصال كذلك سببًا في اطلاع المسلمين في المشرق على الكثير من عادات ذلك الغرب المجهول آنذاك، وكان للكتاب الفريد الذي ألفه أسامة بن منقذ في القرن السادس الهجري “كتاب الاعتبار” قيمة عظيمة، استطعنا من خلالها أن نتبين بعض الملامح الشخصية والاجتماعية للإنسان الغربي في ذلك العصر.
ومما قاله ابن منقذ في الاعتبار:”ليس عندهم شيء من النخوة أو الغيرة، يكون الرجل منهم يمشي هو وامرأته، يلقاه رجل آخر يأخذ يد المرأة ويعتزل بها ويتحدث معها، والزوج واقف ناحية ينتظر فراغها من الحديث، فإذا طوَّلت عليه خلاَّها مع المتحدث ومضى، ومما شاهدت من ذلك أني كنت إذا جئت إلى نابلس أنزل في دار رجل يقال له معز، لها طاقات تفتح إلى الطريق ويقابلها من جانب الطريق الآخر دار لرجل إفرنجي يبيع الخمر للتجار… فجاء يوما ووجد رجلاً مع امرأته في الفراش، فقال له أي شيء أدخلك إلى عند امرأتي، قال: كنت تعبان دخلت أستريح، قال: فكيف دخلت إلى فراشي، قال: وجدت فراشا مفروشا فنمت فيه، قال: والمرأة نائمة معك؟ قال: الفراش لها كنت أقدر أمنعها من فراشها؟ قال: وحق ديني إن عدت فعلت كذا تخاصمت أنا وأنت؛ فكان هذا نكيره ومبلغ غيرتقصته مع الفلاح السرياني
ووما أثر عنه أنه التقى ذاتعلى شط نهر العاصي بفلاح سرياني من معرة النعمان بلد أبي العلاء المعري، وكان للفلاح المعري مسألة لدى أسامة، فمنذ أيام والرجل لا ينام ولا يأكل ولا يشرب منذ وقع في حب فتاة فرنجية من عكا تاهت عن قافلة في فلاة من كفرطاب، فعثر عليها الفلاح وأخذها إلى أهلها بالقافلة وعاد وقد ترك قلبه معها. قال الفلاح لأسامة: توسط لي يا ابن الأمراء في الزواج منها، فأنت تعرفهم عن ظهر قلب ويعرفونك. فقال أسامة: أما وقد طلبت رأيي فإني لك ناصح أمين. إنهم من غرب وانت من شرق وأهل الشرق لديهم حمية وهؤلاء لا حمية لديهم ولا نخوة. حسنهن فاق كل جمال وزرقة أعينهن خطفت الألباب، لكن أولادك منها ” البولاني” سيكونون أقل رتبة في مراتبهم، ولغتها التي تبربر بها لن تفهم منها شيئًا، وتحررها لن يروق لك وإن راق لك فلن يروق لأهلك، وهم خصوم فإن حاربونا ففي اي صف ستكون معنا أم معهم؟ فقال الفلاح: وأما تحررها فسوف تتطبع بطبائعنا وتعيش معيشتنا، ولا يكفيني من لسانها ولغتها إلا أن تكون متفاهمة لينة سهلة، وأهلها من التجار الذين تبلدت أخلاقهم ولا شأن لهم بالحرب والعصبية، وأهلي سيلبون مطلبي إذا علموا أن زواجي منها مكمن سعادتي، وإن لفظوني فأرض الشرق واسعة لي ولها. فقال أسامة: ألم تعلم بأن نسائهن يملن إلى بني جنسهن يا رجل؟ ألم تقرأ في “اعتباري” أنهن يهربن بالأولاد ويعدن إلى حيث نشأن وترعرن!! وقد قام أسامة ببناء قلعة عجلون على جبل عوف في عام (580 هـ – 1184 م)، بأمر من صلاح الدين الأيوبي، لكنه قضى آخر حياته في حصن كيفا (مدينة تركية على نهر دجلة)، وبقي يتأسف على أيام شبابه وجولاته التي جاب فيها الآفاق، وقال في ذلك شعرًا، راثيا نفسه:
لا تحسدنَّ على البقاءِ مُعمَّراً فالموتُ أيسرُ ما يؤولُ إليهِ
وإذا دعوتَ بطولِ عمرٍ لامرئٍ فاعلمْ بأنكَ قدْ دعوتَ عليهِ
وأمضى أسامة بن منقذ شطرًا من حياته مقبلاً على التصنيف، فألف كتبًا عديدة بلغت، أشهرها:”كتاب الاعتبار، البديع في نقد الشعر، تاريخ القلاع والحصون، العصا، أخبار النساء، المنازل والديار، لباب الآداب، أزهار الأنهار، الديوان”.
وفي مثل هذا اليوم 15 نوفمبر 1188م/ 23 رمضان 584هـ، ولما علم صلاح الدين الأيوبي بوفاة أسامة عزَّى ابنه، ثم تقبل العزاء فيه من علية القوم، وقال لهم: «مات اليوم شاعر الأمة وفارسها»، وأمر بدفنه في جبل قاسيون..ه”..