في ظل التحولات الجيوسياسية التي تشهدها منطقة القرن الإفريقي، جاءت زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي الأخيرة إلى جيبوتي لتفتح صفحة جديدة في العلاقات المصرية–الجيبوتية، وترسم ملامح استراتيجية أعمق للأمن القومي المصري في هذا الإقليم شديد الأهمية. ولم تكن هذه الزيارة بروتوكولية بقدر ما حملت في طياتها رسائل سياسية وأمنية واقتصادية واضحة المعالم، تستحق التوقف عندها وتفكيك أبعادها.
جيبوتي تمثل بوابة البحر الأحمر الجنوبية، وتمر من مضيق باب المندب ما يزيد عن 10% من حركة التجارة العالمية، بما في ذلك معظم واردات مصر البترولية القادمة من الخليج العربي ومن هذا المنطلق، فإن تعزيز العلاقات مع جيبوتي يدخل في صميم أولويات الأمن القومي المصري، لما له من دور مباشر في تأمين الملاحة البحرية وحماية المصالح الاستراتيجية المصرية في البحر الأحمر، في ظل التنافس الإقليمي والدولي المحتدم على النفوذ في هذه المنطقة.
الزيارة تؤكد وعي القاهرة بخطورة التوازنات الجديدة في القرن الإفريقي، خاصة في ظل التواجد المتزايد لقوى إقليمية كتركيا وإيران، وأخرى دولية كالصين والولايات المتحدة. ومن خلال تعزيز التعاون مع جيبوتي، تسعى مصر لتثبيت حضورها في المعادلة الإقليمية، ولعب دور محوري في إعادة رسم ملامح النفوذ في المنطقة بما يخدم مصالحها الاستراتيجية، خصوصاً ما يتعلق بأمن البحر الأحمر وقضية سد النهضة.
لم تكن الزيارة بمعزل عن التعاون الاقتصادي، حيث ناقش الرئيس السيسي مع نظيره الجيبوتي مشاريع تنموية، وبحث سبل تفعيل دور الشركات المصرية في البنية التحتية بجيبوتي، وهو ما يُعد ركيزة مهمة ضمن استراتيجية مصر لتعزيز نفوذها الناعم في إفريقيا. كما يُعزز التعاون الاقتصادي مع جيبوتي فرص مصر في تنمية علاقاتها التجارية مع دول شرق إفريقيا، من خلال بوابة جيبوتي البحرية.
اللقاء بين الرئيسين فتح المجال لتنسيق المواقف تجاه عدد من القضايا الإفريقية، لا سيما المتعلقة بالأمن المائي، ومكافحة الإرهاب، والصراعات الحدودية في المنطقة. ويأتي ذلك في إطار تحركات مصر الدبلوماسية لإعادة بناء شبكة تحالفاتها الإفريقية، بما يضمن دعماً إقليمياً أوسع في الملفات الحيوية، وعلى رأسها ملف سد النهضة.
زيارة الرئيس السيسي إلى جيبوتي ليست مجرد محطة عابرة في أجندة السياسة الخارجية المصرية، بل تمثل خطوة استراتيجية تُعيد تموضع مصر كفاعل أساسي في منطقة القرن الإفريقي، وتُكرّس حضورها في المعادلات الإقليمية التي تمس أمنها القومي بصورة مباشرة إنها زيارة تُعبّر عن رؤية أمنية شاملة تستشرف التحديات المستقبلية وتُخطط بذكاء لمواجهتها.