صحف وتقارير

السيادة الوطنية هى الكلمة العليا  فى مجال القانون الدولى لحقوق الإنسان

 

احمد اسماعيل عبد العاطي

 

اعلن رئيس مجلس القومي لحقوق الانسان السفيره مشيره خطاب لا تزال السيادة الوطنية لها الكلمة العليا والأخيرة فى مجال القانون الدولى لحقوق الإنسان، فلا توجد سلطة تستطيع إجبار الدولة على القيام بعمل ضد إرادتها الحرة، ناهيك عن أن كافة الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان يتم صياغتها بمشاركة وفود حكومية تضم عادة خبراء فى المجالات ذات الصلة بموضوع مشروع الاتفاقية التى يجرى التفاوض بشأن

يتركز اهتمامهم على التحوط لمحاولة تضمين مفاهيم أو التزامات تعارض النظام القانونى والقيمى والثقافى للدولة التى يمثلونها، وعادة ما تستغرق صياغة الاتفاقية أو القرار مفاوضات متعددة الأطراف شهورا بل وسنوات طويلة كما حدث فى قانون البحار واتفاقية الجات، وهى مجرد أمثلة لطول عملية الإعداد. والتى يتم خلالها الرجوع إلى العواصم للحصول على توجيهات بخصوص تفاصيل لأمور بعضها مهم وبعضها غير مهم تستخدم أحيانا «حجة» انتظار توجيهات الدولة للتأجيل أو تغيير دفة المفاوضات.

وعودة لحقوق الإنسان، فقد استغرقت عملية صياغة نظام الأمم المتحدة، لحقوق الإنسان، والذى يطلق عليه القانون الدولى لحقوق الإنسان- سنوات رسمت ملامحها التصميم على تجنب أهوال الحرب العالمية الثانية، بدأت بالتفاوض على الإعلان العالمى لحقوق الإنسان، كوثيقة أخلاقية لا تحمل قوة إلزامية، تلاها التفاوض على قرار للجمعية العامة للأمم المتحدة بإصدار الإعلان، ثم النص فى مستهل ميثاق الأمم المتحدة، وتحديدا فى مادته الثانية تحت عنوان ا«لغرض من إنشاء المنظمة الوليدة» على هدفين؛ الأول هو العلاقات الودية بين الدول الأعضاء، والثانى هو ضمان التمتع بحقوق الإنسان للبشر دون أى تمييز لأى سبب كان.

 

واستقرت القناعة بقيمة وضع نظام دولى لحقوق الإنسان تلتزم به «الدول الأطراف» عبر سنوات طويلة. وأدركت الدول أن وضع نظام محكم لحقوق الإنسان ينبثق من الاعتراف بالكرامة المتأصلة فى البشر وأحقيتهم فى التمتع بحقوقهم- دون أى تمييز بسبب الدين أو الجنس أو أى سبب كان- هو السبيل الأكيد للسلام والأمن والعدل والرفاهية ودرء أى خطر.

 

وقد اتفقت إرادة الدول أعضاء الأمم المتحدة من خلال قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، وأعقبه بسنوات مؤتمر فيينا لحقوق الإنسان الذى نظمه الراحل العظيم دكتور بطرس بطرس غالى عام ١٩٩٦، وخلاله اتفقت دول العالم على نظام لحقوق الإنسان يلزم الدول الموقعة عليه ليس فقط بالحماية أو الترويج بل يلزمها بالتنفيذ وضمان التمتع الفعلى لكل مواطن بدون تمييز، ولمعاونة الدول على التنفيذ، تم الإعلان فى مؤتمر فيينا عن إنشاء المفوضية السامية لحقوق الإنسان لتكون بمثابة السكرتارية المعاونة للدول فى تنفيذ حقوق مواطنيها.

 

وتم تصميم نظام لتنفيذ تلك التعهدات من خلال تحديد العقبات التى عادة ما تعترض التنفيذ، وبالتركيز على معاونة الدول الأطراف، أى تلك التى قررت الانضمام على السير فى عملية التنفيذ تدريجيا من خلال تقديم تقارير دورية عن الإنجازات، والتحديات التى واجهت التنفيذ، والتزمت السكرتارية دوما بتقديم العون باقتراح سبل التغلب على تلك التحديات.

 

التزام الدولة بالتنفيذ هو هدفى من كتابة هذا المقال، وأكرر أنه التزام طوعى بالتنفيذ وجعل حقوق الإنسان واقعا معيشا يمارسه كل مواطن يخضع لسلطة الدولة القضائية. وتحقيقا لهذا اتفقت الدول على وضع نظام متكامل ومحكم للتنفيذ، يبدأ بالانضمام إلى اتفاقيات حقوق الإنسان، والالتزام بالمراجعة الدورية للتشريعات الوطنية نصا وروحا لضمان مواءمتها للاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان والمعايير الدولية التى تحددها تلك الاتفاقيات التى قبلت الدولة الانضمام إليها.

 

ومعاونة الدول على وضع قاعدة مركزية للبيانات تكون مفصلة وفق أوجه التمييز المحتملة، تساعد على استهداف أكثر الفئات احتياجا، ومعاونتها على التغلب على العقبات التى تحول دون تمتعها بحقوقها التى يكفلها الدستور والقانون والاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان.

 

واتفقت الدول على أن من أهم أدوات تنفيذ حقوق الإنسان إنشاء مؤسسات وطنية مستقلة لحقوق الإنسان تلتزم الدولة بتوفير الموارد المالية والبشرية والمؤسسية والصلاحيات العريضة التى تمكنها من القيام بالدور المنوط بها لمعاونة الدولة فى عملية تنفيذ حقوق الإنسان، ومن ضمن أدوات التنفيذ أيضا تعاون الحكومة مع منظمات المجتمع المدنى والتعاون الدولى بهدف تبادل الخبرات والدروس المستفادة وتجنب تكرار الإخفاقات.

 

وكى تتمكن المؤسسات الوطنية المستقلة لحقوق الإنسان من معاونة دولها ما بين الحكومة والمجتمع المدنى، اتفقت الدول على أن تمنح تلك المؤسسات الاستقلال المالى والإدارى وتمكينها من أدوات الفعالية فى التعامل مع شكاوى من يدعون تعرضهم لانتهاك حقوقهم، وذلك ضمن مجموعة من المبادئ الحاكمة والشروط أطلق عليها «مبادئ باريس» للمؤسسات الوطنية المستقلة لحقوق الإنسان والتى تم إقرارها بإجماع الدول، وأصبحت مبادئ باريس هى الحد الأدنى للمعايير الدولية التى يجب على المؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان- بغض النظر عن حجمها أو هيكلها- أن تطبقها إذا أرادت أن تكون لها شرعية ومصداقية وفاعلية فى تعزيز حقوق الإنسان وحمايتها. الشرط الأول والأكثر أهمية للمؤسسة الوطنية هو الاستقلال.

 

وتحقيقا لنفس الهدف تم تكوين تحالف عالمى يجمع تلك المؤسسات هدفه تقديم المشورة وتبادل الخبرات وعقد الفعاليات حول القضايا المحورية، وأنشأ التحالف العالمى لجنة فرعية لاعتماد تقييم مدى التزام الدول بمنح تلك المؤسسات الوطنية المستقلة الصلاحيات الواردة بمبادئ باريس.

 

وتعد اللجنة الفرعية للاعتماد بمثابة «تقييم الأقران» Peer review وتمنح كل مؤسسة شهادة الالتزام تبدأ بمرتبة «ألف» هى الأعلى للمؤسسات التى تلتزم تماما بالمعايير، وتنتهى بالفئة «ج» فى أسفل الدرج وعندها تحرم من المشاركة فى أنشطة التحالف العالمى للمؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان. تلك الجهود التشاركية الحثيثة وهذا الحماس العلمى المنظم عبر سبعة عقود ونيف من الرصد وتقييم الأداء، آكدت بما لا يدع مجالا للشك أن الدول التى آمنت بفائدة تمتع مواطنيها بحقوقهم دون أى تمييز، والتزمت بالمعايير الدولية لحقوق الإنسان، نجحت فى تحقيق الاستقرار والعدل والسلم والأمن المستدام والرفاهية والتقدم لمواطنيها، بل وخفضت معدلات الجريمة بشكل ملموس.

 

أعود لأؤكد أنه ليس هناك ما يلزم أى دولة بإنشاء تلك الآلية الوطنية المستقلة لحقوق الإنسان، ناهيك عن أنه لا يوجد ما يدعو أى دولة للادعاء بأنها منحت تلك الصلاحيات للمؤسسة الوطنية، ومن نفس المنطلق لم يعد التظاهر بالتنفيذ مجديا. ذلك أنه عبر ما يزيد على سبعين عاما من رصد الممارسة وتقييمها ازدادت وتنوعت مصادر ومعدلات تدفق المعلومات ودقتها من داخل الدول وخارجها، الأمر الذى زاد من القدرة على استقراء الواقع رغم محاولات مضنية للتجمل والتظاهر بخلافه.

 

وقويت دعائم الحركة العالمية لحقوق الإنسان بفضل الإرادة الحرة لدول أدركت الفائدة من ورائها، وبلغ القانون الدولى لحقوق الإنسان من النضج درجة مكنته من تحويل الالتزام الطوعى إلى التزام قانونى بإنفاذ حقوق الإنسان، وحركت الاستثمارات العالمية بوصلتها صوب الدول التى تحترم وتنفذ حقوق الإنسان، وبعيدا عمن يسيرون فى الاتجاه المعاكس.

 

وبلغ النظام العالمى لحقوق الإنسان درجة متقدمة من النضج والتعمق، جعلته خاليا من التعقيد وسهلت كشف أى محاولة للتحايل على ذلك الالتزام بإنشاء أشباه أو هياكل صورية توحى بالالتزام. تلك المحاولات لم تعد تجدى وبات من الصعب ترويجها فى عصر ثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات والتى سهلت كشف الواقع. وساعد على ذلك تنامى شبكات من الجمعيات الأهلية الوطنية والدولية المتخصصة فى جمع المعلومات وتحليلها وترويجها عالميا.

 

وفى الغالب الأعم يأتى الهجوم الأخطر وكشف ما يعتقد البعض أنه مستور على يد معارضى الدول المقيمين خارجها والذين يجدون ضالتهم فى نظام إعداد التقارير المقدمة إلى اللجان التعهدية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، والذى يقوم على تنوع مصادر المعلومات بالاستماع إلى جميع الأطراف، أى الحكومة، والمجتمع المدنى والمؤسسات الوطنية المستقلة لحقوق الإنسان.

 

ويسعى لحماية منظمات المجتمع المدنى من بطش السلطة فى حالة هجومها على الدولة أو انتقادها، بل عادة ما يتم تقييم حالة حقوق الإنسان بالاعتماد أساسا على المصادر غير الحكومية، استنادا إلى أن الأخيرة تركز تقاريرها على «الإنجازات» ولا تميل إلى الاعتراف بالمشاكل أو ما تعارف على تسميته بالتحديات. وقد أدركت دول كثيرة هذا الواقع وتعاملت معه بحرفية.

 

وفى النهاية يقال تفاءلوا بالخير تجدوه:

 

فقد فتحت دعوة الرئيس عبد الفتاح السيسى للحوار الوطنى وتأكيده بأن الخلاف فى الرأى لا يفسد للوطن قضية، نافذة مهمة وانفراجة فى مجال الحقوق المدنية والسياسية، فيما يتعلق بحرية الرأى والتعبير، تضيف إلى الإنجازات التى تحققت فى مجال حقوق المرأة وحقوق الأقباط. ومن هنا صمم المجلس القومى لحقوق الإنسان على مطلبه بألا يحرم إنسان من حريته بسبب رأى عبر عنه، بما يتفق والقانون، وفى ذات السياق جاءت إحالة الرئيس لتوصيات الحوار الوطنى فيما يتعلق بالحبس الاحتياطى إلى الحكومة خطوة مهمة على طريق إنفاذ حقوق الإنسان، مثل تلك الخطوات العملية والصادقة التى نفذت الالتزامات التى قطعتها الدولة المصرية على نفسها إلى واقع معيش.

 

ولا يفوتنى الإشارة إلى تطور مهم فى مجال إنفاذ حقوق الإنسان فى مصر، ألا وهو قرار مجلس النواب بمراجعة قانون الإجراءات الجنائية:

 

وفى إطار صلاحيات المجلس القومى لحقوق الإنسان بموجب قانون إنشائه، تم دعوته للمشاركة فى أعمال لجنة الشؤون التشريعية والدستورية بمجلس النواب وأعمال اللجنة الفرعية التى تم تكليفها بصياغة مشروع القانون. وكانت فرصة كى يساهم المجلس فى إنجاز تاريخى للدولة المصرية يبشر بنقلة نوعية فى حالة حقوق الإنسان والحريات العامة، ألا وهو وضع مشروع قانون جديد للإجراءات الجنائية.

 

ويجب ألا يشغلنا مضمون القانون عن إلقاء الضوء على العملية التى تم من خلالها مراجعة القانون الديناصور، حيث مثلت تلك العملية نقلة نوعية فى حقوق الإنسان والحريات العامة، ويستمد الإنجاز أهميته من خلال نطاق غير مسبوق لعملية تشاركية ضمت كافة الشركاء.

 

تحية واجبة للمستشار الجليل رئيس مجلس النواب الذى حرص على إعطاء الكلمة لكل من طلبها لإبداء الرأى فى المشروع الجديد فى سنة حميدة نأمل أن تمتد إلى تشريعات أخرى عفا عليها الزمن، وأصبحت تخالف الدستور وتحتاج لمواكبة تطورات مهمة وإنجازات للدولة المصرية فى مجال حقوق الإنسان.

 

وفى زخم تلك الخطوات العملاقة لتنفيذ حقوق الإنسان وجعلها واقعا معيشا لكل مصرى ومصرية دون تمييز، نأمل أن ينال المجلس القومى لحقوق الإنسان استحقاقه الدستورى كاملا من حيث الصلاحيات والاستقلالية بفضل مساندة القيادة السياسية لتنفيذ الالتزامات الدولية بما تستحقه من حماس وإيمان بالفائدة من إنفاذ حقوق الإنسان، وغيرة على مكانة مصر بين الدول إن لم يكن على المستوى العالمى فلا أقل من الريادة الإقليمية، تلك المكانة التى تستحقها باعتبارها من الدول المؤسسة للحركة العالمية لحقوق الإنسان.. وتحيا مصر.. تحيا مصر.. تحيا مصر.

فيفي محمود

صحفية وكاتبة روائية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock