
إكرام الميت دفنه…، ما تزال قضية استرجاع جماجم الشهداء الجزائريين تمثل جرحا نازفا في ضمير الأمة. فبعد أكثر من ثلاثة وستين عاما على الاستقلال، لا تزال جماجم أبطال الثورة الجزائرية محتجزة في متاحف دولة فرنسا المحتلّة،
وفي مقدمتهم قادة الكفاح الشعبي من ثوار جبهة التحرير الوطني، وغيرهم ممن حمّلوا أرواحهم مسؤولية الدفاع عن الوطن الأم.
تقدّمت المفاوضات عبر السنوات، وعادت خاوية على عروشها إلى تراب وطنهم، لكنّ السؤال الأعمق يظل قائما،
ما الذي حوّل قضية إنسانية بهذا الثقل إلى ملفّ قانوني وسياسي؟ وكيف ينحسر مطلب الدفن الكريم داخل نقاشات الاعتراف التاريخي، بينما ينسى البعد الإنساني والأخلاقي الذي يمثّل جوهر القضية أمام الجميع؟
أولئك الشهداء الذين ارتقوا فداء لحرية وطنهم، ينتظرون منذ أكثر من ستة عقود لحظة الكرامة الأخيرة. فهل هذا هو الجزاء لمن ضحّوا من أجل أجيال جبناء، أضحوا أحفاد الجزائريون القدماء الأشاوس؟ أين الأصوات التي تطالب بعودتهم؟ أين الحشود وأين المنظمات التي يفترض أن تهزّ ضمير العالم؟ أي صمت هذا الذي يطوّق رفات أبطال كان لهم فضل الحياة التي يحياها الجزائريون الجدد اليوم؟
استمرار وجود جماجم الأجداد في قبضة المستعمر الفرنسي يشير إلى حقيقة واحدة لا غير: استقلال الجزائر لم يكتمل بعد.
فحرية الوطن تتجسّد حين تستعاد رفات الشهداء ومن دافع عنها، فكيف تنعمون بحرية ناقصة؟!
حرّروا فورا رفات من حاربوا من أجلكم، وامنحوهم دفنا يليق بمكانتهم المشرّفة، كما منحكم نضالهم مساحة العيش الرغيد في وطن آمن.
لقد مرّ نصف قرن ويزيد، ولا يزال الموضوع يطرح نفسه: لماذا ترك شهداء الجزائر بلا دفن؟
أولاءك الشهداء الذين كانوا ولا يزالون المثل الأعلى لكل الشعوب العربية والإسلامية، ولكل ثائر ومناضل في العالم، أن تعامل رفاتهم كأنهم نسيا منسيا،
لم يكرموهم من أنعموا بالحرية من بعدهم حتى بالدفن، وراحوا يكرمون أبناء الشهداء بالمال والإمتيازات!!! لماذا يُكرم أبناؤهم بدعم مادي بينما تبقى جماجم الآباء رهينة، مهملة ومغتربة في متاحف الأعداء؟
هؤلاء هل هم حقا أبناء شهداء؟ كيف أنهم فكروا بالمال ولم يفكروا بدفن أباءهم الشهداء؟ لماذا لم يطالبوا بشتى الطرق وبالإضراب العام، لدفن أباءهم بدلا من المال؟ كيف ينسب أحدهم إلى شهيد وهو لا يحمل مطلب الدفن ويبقى يعيش في أرض أجداده الشهداء؟
أي تناقض هذا؟ كيف أن الجزائريون لم يدفنوا الشهداء وهم يتبجّحون بهم ويعتزّون بهم، ويرفعون بهم الرؤوس في كل المحافل، وفي المقابل لم يجرؤوا حتى على أن يطالبوا مواراتهم التراب، جزاءا على كل تضحياتهم. فأي نفاق هذا الذي يعيشه مجتمع يتباهى بشهدائه ويقف عاجزا عن منحهم أبسط حقوقهم الإنسانية وهو الدفن الكريم؟
حان الوقت لتسألوا أنفسكم بصدق، هل أنتم جديرون بتضحياتهم؟
ويزداد المشهد قتامة حين يقارن واقع الجزائريين بواقع غيرهم. فها هي إسرائيل تتحرك بكامل ثقلها الدبلوماسي وتخوض مفاوضات مكثفة، لاستعادة رفات جنودها خلال أشهر معدودة، تفعّل أدواتها السياسية والإعلامية في استنفار تام، وكل دبلوماسيتها على قدم وساق، تشعل مجتمعها من أجل جثمان واحد، وكأن قيمة الإنسان تتجسّد عندها في الوفاء لما بعد الموت.
وفي المقابل رفات شهداء الدين والوطن والكرامة في الجزائر ما زالت أسيرة منذ ثلاثة وستين عاما، معلّقة بين رفوف المتاحف الاستعمارية، تنتظر اللحظة التي يعود فيها أصحابها إلى تراب الوطن.
أي معنى لهذا التناقض؟ كيف تتمكّن دولة من استرجاع جندي سقط في معركة على أرض غير أرضه، بينما يظلّ شهداء الجزائر، أبناء الأرض والأصالة، أسرى في بلاد المحتل الفرنسي؟
أليس هذا مشهدا يستفزّ ضمير الأحياء ويطرح سؤالا مؤلما عن حقيقة قيمة التضحية في وجدان وضمير الأحياء؟
فالبلد الوحيد في العالم الذي رفات شهداءه لا يزالون عالقون وآسرى، ويحملون خصوصية موجعة في تاريخه هو الجزائر؛ رغم حجمه وطول أمده، حيث يجسّد حالة فريدة من انتهاك كرامة الشعوب بعد انتهاء الاستعمار. فرفات شهداء الجزائر الذين دافعوا عن أرضهم ما تزال محتجزة عند فرنسا،
والجالية الجزائرية تعدّ بالملايين في فرنسا ولم تسوّل لهم أنفسهم اقتحام المتحف واسترجاع رفات الجماجم، بدل التسكّع في الشوارع والتفاخر بالعيش مع الفرنسي على نفس الأرض.
أي عار هذا الذي يسجّله التاريخ؟!
مشهد كهذا يرتقي إلى مستوى الفضيحة الدبلوماسية والإنسانية!!!
يقدر عدد جماجم شهداء المقاومة الجزائرية المحتجزة في فرنسا بنحو 18 ألف جمجمة، تتركز في متحف التاريخ الطبيعي في باريس، وقد أُعيد منها 24 إلى الجزائر في عام 2020.ولكن تم التعرف على هوية 6 منهم فقط، والباقي كان مجهول الهوية،
أُرسلت هذه الجماجم كغنائم حرب بين عامي 1843 و1850، وكان يتم استخدامها في الماضي للتباهي، وهي تُمثل رمزاً للممارسات الاستعمارية.
تظهر الأرقام التاريخية لشهداء الجزائر خلال الحقبة الاستعمارية (1962-1830) تباينا كبيرا بين المصادر، ويعود هذا الاختلاف بشكل رئيسي إلى تباين نطاق الفترة الزمنية التي تغطيها كل إحصائية.
فبينما تشير تقديرات الرابطة الجزائرية لحقوق الإنسان وباحثين مثل جاك جوركي ومحمد الحسن زغيدي إلى أن إجمالي الضحايا عبر الفترة الاستعمارية بأكملها (132 عاما) قد يصل إلى حوالي 9 أو 10 ملايين نسمة، وذلك في محاولة لاحتساب ضحايا المقاومات الشعبية المتكررة والمجاعات والمجازر طوال تلك الحقبة، نجد أن الرأي الرسمي للدولة الجزائرية يركز على حرب التحرير (1962-1954) فقط، ويُعتمد فيه رقم مليون ونصف المليون شهيد.
من جهة أخرى، تقدم بعض الدراسات والمصادر الفرنسية تقديرات مختلفة لحرب التحرير ذاتها، حيث تقدر عدد القتلى الجزائريين من مدنيين وعسكريين خلالها بنحو 250,000 قتيل، معتمدة في ذلك على السجلات والتقديرات الديموغرافية لتلك الفترة.
وبالتالي، فإن الفجوة الكبيرة بين الأرقام مثل الفرق بين 1.5 مليون و10 ملايين تعكس اختلافا في المنهجية ونطاق الدراسة، حيث أن التقدير الأعلى يشمل كامل فترة الاستعمار منذ الغزو وحتى الاستقلال، والتي شملت أحداثا كبرى مثل مجزرة سطيف وقالمة وخراطة عام 1945، بينما يقتصر الرقم الرسمي على سنوات حرب التحرير المباشرة.



