
بقلم / احمد عزيز الدين احمد
في وقتٍ يتعطش فيه العقل المصري إلى لحظة وعي، وفي مرحلة تاريخية تتطلب إعادة بناء الإنسان قبل الحجر، تصر وزارة الثقافة المصرية على السير عكس التيار، وعلى اتخاذ قرارات لا تخدم إلا مشروعًا مريبًا لمحو الذاكرة الجمعية، وتجفيف منابع الوعي، وتحويل الثقافة إلى سلعة هامشية، بدلاً من كونها العمود الفقري لبناء الأمة.
لقد بدأت الوزارة، للأسف، خطوات عملية نحو تفريغ المقرات الثقافية من مضمونها، بإغلاق القاعات التي كانت يومًا منابر للفكر والإبداع، وتحويلها إلى أماكن للبيع والشراء، في مشهد سريالي، يُشبه ما يحدث حين تتحول دور العبادة إلى مقاهٍ، أو حين يُغلق المسرح ليفتح محلًا للملابس المستعملة.
ماذا يعني إغلاق مقرات الندوات الأدبية والشعرية والثقافية؟
يعني ببساطة أن وزارة الثقافة – التي من المفترض أن تكون الحصن الحامي للهوية المصرية – قررت الانحياز إلى منطق السوق، وضربت بعرض الحائط تراثًا طويلًا من الندوات التي كانت تُشكّل العقل الجمعي في القرى والمراكز والنجوع، وتُنتج فكرًا مقاومًا للجهل، والتعصب، والتطرف.
إن هذه الندوات، مهما بدت صغيرة أو محلية، كانت هي الجدار الأخير أمام تفكك الهوية المصرية. كانت ملاذًا للشعراء، وللقراء، وللحالمين الذين يؤمنون بأن مصر لا تزال قادرة على ولادة فكر جديد. فهل ندرك ماذا يعني قتل هذا الحلم في أعماق الريف والصعيد والدلتا؟
وزارة الثقافة… من راعٍ للهوية إلى شاهد زور على طمسها
الوزارة اليوم لا تقوم بدورها الطبيعي، بل تنقلب عليه. بدلاً من توسيع رقعة التنوير، باتت تُقلصه. وبدلاً من أن تفتح المراكز الثقافية في القرى والنجوع، ها هي تغلق ما تبقّى منها، أو تفرّغها من مضمونها.
لقد كان المثقف المصري دومًا جزءًا من الأمن القومي الحقيقي. فالمثقف يزرع في الناس الوعي، والهوية، والانتماء. وحين يُقمع المثقف، أو يُقصى، أو يُحاصر، يتقدم الجهل، وتعلو أصوات التكفير، ويتسلل الخراب عبر نوافذ الصمت.
طمس الهوية الثقافية خطرٌ على الأمن القومي
الذي لا تدركه – أو تتجاهله – وزارة الثقافة، أن ما تفعله لا يهدد الشعر والأدب فقط، بل يُهدد الأمن القومي نفسه. فثقافة القرى ليست ترفًا، بل هي سلاح ناعم يحارب الأفكار المتطرفة، ويعالج مشكلات اجتماعية واقتصادية عبر الكلمة.
تُرى، هل فكّرت الوزارة في مآلات هذا القرار؟ هل تدرك أنها حين تغلق منبرًا شعريًا، تفتح ثغرة في جدار الوطن؟ هل تعلم أن كل قاعة ثقافية تُغلق، تفتح مكانها نافذة للفراغ، والذي لا يملؤه سوى العنف أو الانحراف أو التطرف؟
نناشد العقلاء: أوقفوا هذا العبث!
إن ما يحدث اليوم هو ببساطة قتلٌ للروح المصرية، ودفنٌ تدريجي لذاكرة الأمة. ولذلك نناشد كل من تبقّى لديه ضمير في هذه الدولة، أن يقف وقفة رجل واحد لإيقاف هذا المسلسل الكارثي. لا تتركوا مصر بلا صوت. لا تتركوا القرى دون شاعر، والمراكز دون قاصّ، والنجوع دون قارئ.
فالمثقف هو الجندي الحقيقي في معركة الوعي، ووزارة الثقافة – إن أرادت أن تستحق اسمها – فعليها أن تعود فورًا إلى دورها الطبيعي: حماية الكلمة، لا خنقها… وبناء الإنسان، لا تسليعه.
بقلم / احمد عزيز الدين احم
كاتب وروائي وشاعر