
بقلم احمد شتيه
باحث فى الشأن الاستراتيجي والامن القومى
في خطوة تُعدّ من الأهم في تاريخ التعاون الاقتصادي المصري-الصيني، أعلنت شركة “شين فينج” الصينية، إحدى أكبر الكيانات الصناعية العالمية، عن إطلاق شراكة ضخمة مع الحكومة المصرية لإنشاء مجمع صناعي عملاق في مصر. هذا المجمع، الذي يُتوقع أن يكون من الأكبر في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا، يمثل نقطة تحول محورية في خريطة التنمية الصناعية في مصر، كما يحمل في طياته رسائل سياسية واقتصادية تتجاوز حدود الاتفاق التقليدي.
يقع المجمع الصناعي الجديد في المنطقة الاقتصادية لقناة السويس، وهي منطقة استراتيجية تعزز موقع مصر كمركز إقليمي للتجارة والصناعة وسيتضمن المشروع مصانع لإنتاج الحديد، الإسمنت، المواد الإنشائية، ومكونات الطاقة المتجددة، إلى جانب مراكز بحث وتطوير، مما يجعله منصة متكاملة للإنتاج والتصدير.
تُشير التقديرات الأولية إلى أن المشروع سيوفر ما يزيد عن 30,000 فرصة عمل مباشرة وغير مباشرة، كما سيُضخ استثمارات تُقدّر بمليارات الدولارات في السوق المصري. هذا من شأنه أن يُعزز الناتج المحلي الإجمالي، ويُقلل من عجز الميزان التجاري من خلال دعم الصادرات، ويُساهم في استقرار الجنيه المصري على المدى الطويل.
كما سيسهم المشروع في نقل التكنولوجيا وتدريب الكوادر المحلية، وهو ما كانت تفتقر إليه بعض الشراكات السابقة، ما يُعزز من القدرات التصنيعية الوطنية ويدعم رؤية مصر 2030 للتحول إلى اقتصاد قائم على المعرفة والتصنيع المتطور.
تأتي هذه الخطوة في ظل توترات اقتصادية عالمية غير مسبوقة، حيث تعاني العديد من الدول من تباطؤ في النمو وسلاسل إمداد مضطربة وفي هذا السياق، يبدو أن مصر توجه بوصلة تحالفاتها الاقتصادية نحو “التنين الصيني”، الذي لا يزال يُظهر قوة إنتاجية ومالية كبيرة.
وتعد هذه الشراكة مؤشراً على تعميق العلاقات المصرية-الصينية التي تطورت في السنوات الأخيرة من التعاون في مشروعات البنية التحتية، مثل العاصمة الإدارية الجديدة، إلى الدخول في شراكات صناعية استراتيجية ذات طابع طويل المدى.
لا يُمكن إنكار أن الشراكة مع الصين جاءت في وقت يشهد فيه العالم إعادة تشكيل للتحالفات الاقتصادية ، بينما تتراجع بعض القوى الغربية في التزاماتها مع دول الجنوب العالمي، يبدو أن الصين تقدم نموذجاً مختلفاً من التعاون: قائم على المنفعة المتبادلة والتنمية المشتركة، وليس على الشروط السياسية الصارمة.
لكن من غير الدقيق القول إن مصر تستبدل شركاءها، بقدر ما هي تنوع خياراتها وتعزز من استقلاليتها الاقتصادية عبر إقامة علاقات متوازنة مع مختلف القوى العالمية، مع إعطاء أولوية للفرص التي تحقق نقلة نوعية في الاقتصاد المحلي.
الشراكة بين مصر وشركة شين فينج ليست مجرد مشروع صناعي ضخم، بل إشارة إلى تحول استراتيجي في مسار التنمية المصرية والعلاقات الدولية في آنٍ واحد.
في زمن تتصارع فيه القوى الكبرى على النفوذ الاقتصادي، يبدو أن مصر اختارت أن تفتح أبوابها على مصراعيها نحو الشرق، حيث يحل التنين الصيني ضيفاً ثقيلاً، لا يمر مرور الكرام، بل يترك أثراً يدوم لعقود قادمة.