مقالات وآراء

زفة في أكفان بيضاء… حين تحولت لقمة العيش إلى نعش!

 

بقلم د/سماح عزازي

في وطنٍ يُقال عنه إنه وطن الأمان… خرجن.
خرجت أقدامُ صغيرة تحمل حلمًا أكبر من الجبال، لا يطلبن الكثير… لم يحلمن بقصور، ولا بمقاعد في الجامعات الأجنبية، ولا بفساتين من ماركات العواصم الكبرى.
كلهن كُنّ يحلمن بحلم واحد فقط: “زفة على قدّ الحال… وجهاز بسيط… وبيت صغير يستر الحلم من ريح الفقر.”

تحت شمس لا تعرف الرحمة، وفي قلب أيام لا تملك إلا القسوة، سارت خطواتهن على طريق الحياة… ذلك الطريق الذي لم يكن يومًا ممهّدًا لقلوب الفقراء، ولا مفروشًا إلا بالحجارة والعرق والخوف.

خرجْن للعمل… لا للتسول، ولا للسؤال، ولا للاستجداء.
خرجْن بأيدٍ طرّزت الكرامة في كل غرزة، وخاطت على أطراف القماش أحلامًا مُعلقة في دفتر الجمعية، تنتظر نهاية الشهر لتُصبح واقعًا.

لكن الطريق… لم يكن طريقًا نحو الحلم.
كان كمينًا منصوبًا على هيئة أسفلت متهالك، وشاحنة عمياء، وسائق مجنون، ودولة صمّاء لم تفهم يومًا أن فقراءها بشر… لهم حق النجاة، كما لهم حق الموت بكرامة.

في لحظة خاطفة… تحوّل طريق العودة من عملٍ شريف إلى طريقٍ باتجاه واحد… لا يحمل سوى كلمة واحدة: “إلى الجنة.”
وعلى الأرض… تمددت النعوش البيضاء، وانتشر البكاء، وانكسر قلب الوطن للمرة الألف، لكنه كعادته… لم يصرخ.

هنا… حيث سقط الحلم تحت عجلات العوز
في وطنٍ يُقال عنه إنه وطن الأمان… خرجن.
خرجت أقدامُ صغيرة تحمل حلمًا أكبر من الجبال، لا يطلبن الكثير… لم يحلمن بقصور، ولا بمقاعد في الجامعات الأجنبية، ولا بفساتين من ماركات العواصم الكبرى.
كلهن كُنّ يحلمن بحلم واحد فقط: “زفة على قدّ الحال… وجهاز بسيط… وبيت صغير يستر الحلم من ريح الفقر.”

تحت شمس لا تعرف الرحمة، وفي قلب أيام لا تملك إلا القسوة، سارت خطواتهن على طريق الحياة… ذلك الطريق الذي لم يكن يومًا ممهّدًا لقلوب الفقراء، ولا مفروشًا إلا بالحجارة والعرق والخوف.

خرجْن للعمل… لا للتسول، ولا للسؤال، ولا للاستجداء.
خرجْن بأيدٍ طرّزت الكرامة في كل غرزة، وخاطت على أطراف القماش أحلامًا مُعلقة في دفتر الجمعية، تنتظر نهاية الشهر لتُصبح واقعًا.

لكن الطريق… لم يكن طريقًا نحو الحلم.
كان كمينًا منصوبًا على هيئة أسفلت متهالك، وشاحنة عمياء، وسائق مجنون، ودولة صمّاء لم تفهم يومًا أن فقراءها بشر… لهم حق النجاة، كما لهم حق الموت بكرامة.

في لحظة خاطفة… تحوّل طريق العودة من عملٍ شريف إلى طريقٍ باتجاه واحد… لا يحمل سوى كلمة واحدة: “إلى الجنة.”
وعلى الأرض… تمددت النعوش البيضاء، وانتشر البكاء، وانكسر قلب الوطن للمرة الألف، لكنه كعادته… لم يصرخ.

على قارعة الحلم… سقطت أجساد البنات
في هذا الوطن، ثمة مشاهد تُكتَب بالدم، لا بالحبر.
في هذا الوطن، قد تصحو القرى على أصوات الزغاريد…
لكنها في بعض الأيام تصحو على صرخات تشقّ صدر السماء.
هنا… في قرية كفر السنابسة، لم يكن الفجر كأي فجر.
خرجت البنات… خرجت القلوب قبل الأجساد، تحمل على أكتافها ما أثقلته الأيام: حلم صغير، زفة على قد الحال، غرفة مكتوبة على الحائط بأمل، ودفتر جمعية مملوء بالأمنيات المؤجلة.

أقدامهن لم تخطُ إلى أماكن اللهو، ولا إلى دروب الحرام، بل إلى ورشة شريفة، إلى عمل يعرفه الفقراء وحدهم… عملٌ لا تُقاس فيه الساعات بالراحة، بل تُقاس بكمية العرق المسكوب، ووجع الظهر، ولسعات الشمس، وحبات العرق التي تسيل على جباه لا تنحني إلا لله.

يومية بـ 130 جنيهًا… مبلغ لا يكفي لشراء رغيف على أرصفة العاصمة، لكنه هنا — في قلب الريف الجريح — كان حلمًا.
كُنّ يحسبن الجنيه كما يحسب الجندي الرصاصة في المعركة… فإما تصيب الجوع، أو يسقط الحلم قتيلًا.

لكن ما لم يحسبنه… أن هذا الطريق، الذي يشهد يوميًا على رحلتهن نحو الحياة، كان يُخبئ لهن مفاجأة من نوع آخر.
لم يكن بانتظارهن زفة… لم يكن بانتظارهن شقة العمر، ولا جهاز العروس… كان في انتظارهن نعش أبيض، وأسفلت يتعطّر بالدم، وسماء تلبّدت بالسواد، وأكفّ ترتفع لا بالتصفيق… بل بالدعاء والوداع.

على قارعة الحلم، سقطت أجساد البنات.
سقطت تحت عجلات شاحنة متهورة، وسقط معها وجه هذا الوطن… وسقطت معه كل شعارات التنمية والتمكين والعدل الاجتماعي.

“كنا بنستناهم يرجعوا… يرجعوا زي كل يوم، بضحكتهم، بحكايتهم… لكن اللي رجع الصناديق، مش البنات!” — (تصريح أم إحدى الضحايا، وصوتها يرتعش بين البكاء والصراخ.)

المشهد القاسي… الوطن كله كان هناك!
على جانب الطريق الإقليمي، اصطفّت النعوش، بيضاء كأنها زفة مؤجلة للسماء.
كان الحضور: أمهات يلطمن، وآباء ينوحون، وإخوة فقدوا النطق، وقرية بأكملها أطبقت عليها الكارثة… لا صوت إلا صوت البكاء، ولا مشهد إلا دموع تنسكب على أرض ما ارتوت يومًا إلا بعرق البسطاء ودماء الطيبين.

الحكاية… ليست حادثًا، بل جريمة مكتملة الأركان!
19 فتاة من قرية كفر السنابسة بمحافظة المنوفية، خرجن فجرا إلى عملهن في إحدى ورش الملابس بمدينة السادات.
يومية بـ 130 جنيهًا — لا تأمين، لا مواصلات، لا حماية.
انتهى اليوم كما بدأ… على الإسفلت، حيث باغتتهن شاحنة نقل مسرعة، دهست الحلم، والكرامة، والقلوب.

القاتل… طريق مهمل وسرعة قاتلة
وفق تقرير الإدارة العامة للمرور:

السبب المباشر للحادث هو السرعة الزائدة وعدم الالتزام بالحارة.

الطريق الإقليمي يفتقر إلى إشارات تحذيرية كافية، ووسائل أمان معدومة.

شهد نفس الطريق أكثر من 58 حادثًا مميتًا خلال 6 أشهر فقط.

تقرير المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية:
240 حالة وفاة لعاملات مصريات خلال عامين بسبب غياب شروط الأمان.

87% من العاملات في قطاع الاقتصاد غير الرسمي بلا تأمين اجتماعي أو صحي.

أكثر من 70% منهن يعتمدن على وسائل نقل غير آمنة، بسبب ارتفاع تكاليف المواصلات.

المناطق الصناعية تفتقر إلى مواصلات عامة آمنة، وطرق صالحة، وبيئة عمل آدمية.

شهادة موجعة من زميلتهن الناجية الوحيدة:
“كنت معاهم في نفس العربية… فجأة لقينا الموت جاي بسرعة… صوت صراخ، بعدها ظلام… صحيت لقيت الناس بتلم فينا، وأنا الوحيدة اللي ربنا كتب لها عمر.”

أهالي الضحايا يصرخون:
الحاج عبد الجواد، والد إحدى الفتيات، يبكي بحرقة:
“بنتي خرجت تدور على لقمة بالحلال… كان حلمها زفة بسيطة… لقتها زفة في نعش أبيض.”

السيدة أم أسماء، وقد خنقها البكاء:
“بنتي كانت بتحوّش من الجمعية… كانت بتقول لي يا ماما استحملي شهرين بس ونخلص الجمعية ونجهز… بس ماتت قبل ما تشوف فرحتها.”

هذا وطن البنات المكافحات… لا وطن الجلادين!
أي عدالة هذه التي تُبقي البنات يعملن تحت الشمس، مقابل 130 جنيهًا، وفي النهاية يعودن إلى بيوتهن في نعوش؟!
أي خطط تنمية هذه التي تتحدث عن تمكين المرأة، بينما المرأة الفقيرة تُسحق بين فقر الطرق وفقر السياسات؟

الحلول ليست معجزة… لكنها غائبة!
يطالب خبراء المجتمع المدني بما يلي:

إنشاء شبكة مواصلات آمنة تربط القرى بالمناطق الصناعية.

إصلاح الطرق وتأمينها باللافتات والإنارة والرقابة المرورية.

فرض عقوبات صارمة على سائقي النقل المتهورين.

إدخال عاملات الاقتصاد غير الرسمي تحت مظلة التأمين الصحي والاجتماعي.

تشديد الرقابة على ورش العمل غير المرخصة، وتوفير بيئة عمل آدمية.

صرخة إلى من يملك القرار:
هذه ليست المرة الأولى، ولن تكون الأخيرة، ما لم يتحرك الضمير قبل القوانين.
إن دماء بنات كفر السنابسة ستظل لعنة تطارد كل مسؤول جلس خلف مكتبه ووقّع على إهمال الطرق، وتجاهل صرخات الفقراء، وباع حياة الشرفاء بثمن بخس.

رحلت الفتيات مرفوعات الرأس… مكللات بالشرف… وتركْن لنا وصية مكتوبة بالدم:
“لا تجعلوا الفقر يقتل من تبقى.”

رحلْن… فبقيت لعنة الفقراء تطاردكم
هكذا… ودّعت قرية كفر السنابسة بناتها.
لا بزفة، ولا بزغاريد، بل بنعوش بيضاء… محمولة على أكتاف رجال يجرّون خلفهم كل خيبات هذا الوطن.
ودّعتهن الأمهات بقلوب مثقوبة، والآباء بظهور انحنت فجأة، والأخوة بألسنة عاجزة عن الكلام.

لكن هل رحل الألم؟
لا… لم يرحل.
لأن الألم الحقيقي ليس في موت الفتيات… بل في أن هذا الموت كان قابلًا للتأجيل، للتجنّب، لو كانت الطرق آدمية، لو كانت المواصلات آمنة، لو كانت الدولة تنظر بعين الرحمة لمن يكافح بالحلال.

هذا ليس حادثًا عارضًا… هذا قبح متراكم.
قبح في الطرق التي تحصد الأرواح.
قبح في مؤسسات لم توفر لهن وسيلة نقل تحفظ لهن حياتهن.
قبح في سياسات تعاقب الفقراء مرتين: مرة بالفقر… ومرة بالموت في سبيل لقمة العيش.

إن بنات كفر السنابسة لم يمتْن وحدهن… بل مات معهن ضمير غائب، وأمانة مهدرة، ومسؤولية ضاعت بين مكاتب البيروقراطية وأوراق “التمكين الكاذب”.
ماتت أحلام زفة، وحجرة، ودفتر جمعية.
لكن بقيت لعنة الفقراء… تطاردكم.
كل مسؤول صمت… كل موظف أهمل… كل سائق استهتر… كل جهة وقّعت على موتهم دون أن تدري.

في النهاية، رحلْن مرفوعات الرأس… لكن بوصية واضحة، لا تُكتب بالحبر، بل تُنقش بالدم:
“إذا كان العدل بعيدًا في الأرض… فاجعلوه قريبًا في السماء.”

ارفعوا رؤوسكم… فإن بناتكم صعدن إلى السماء شامخات

لا تبكوا عليهن بالبكاء العادي، فدموعكن لن تكفي لغسل هذا العار.
لا تواروا أجسادهن تحت التراب وكأن الأمر انتهى… فالحكاية أكبر من موت، وأبشع من حادث.

هؤلاء البنات… خرجْن بشرف، وعُدن بأكفانهن.
كأنما اختارت السماء أن تكون زفتهن بيضاء ناصعة، تليق بنقاء قلوبهن، وطهارة أياديهن التي لم تعرف إلا الكدّ والشرف.

لكن لنعترف جميعًا… أنهن لم يمُتْن وحدهن.
ماتت معهن كل شعارات العدالة الاجتماعية.
ماتت كل المؤتمرات الفاخرة التي تتحدث عن تمكين المرأة، بينما نساء هذا الوطن يُدهسن تحت عجلات الفقر والإهمال.
ماتت الوعود البراقة عن تحسين البنية التحتية، وتوفير فرص عمل، وتأمين مواصلات آمنة.

واليوم… لا عزاء إلا في ضمير سيبقى معلقًا برقبة كل مسؤول، وكل صامت، وكل من رأى طريقًا بلا أمان فسكت، أو شاهد شاحنة الموت تمرّ فغضّ بصره.

ارفعوا رؤوسكم أيها الآباء… ارفعوا رؤوسكم أيها الأمهات… فإن بناتكم صعدن إلى السماء شامخات، مرفوعات الرأس، نظيفات القلب والكف، أطهر من هذه الأرض، وأنقى من هذا الوطن الذي خذلهن.

ولتبقَ لعنة الفقراء تطاردكم… كلما مَرّت شاحنة… أو سلكت قدمٌ طريقًا لا يحمل سوى عنوان واحد: “طريق الموت… بحثًا عن لقمة شريفة.”

المراجع والمصادر
الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء. (2024). تقرير سوق العمل المصري – الربع الرابع 2024. القاهرة، مصر.

وزارة النقل المصرية. (2024). التقرير السنوي لحوادث الطرق والبنية التحتية للنقل في مصر. القاهرة، مصر.

الإدارة العامة للمرور، وزارة الداخلية المصرية. (2024). بيان رسمي عن الحوادث المرورية على الطريق الإقليمي لعام 2024. القاهرة، مصر.

المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية. (2024). نساء الاقتصاد غير الرسمي في مصر: بين التهميش والمخاطر. القاهرة، مصر

المبادرة المصرية للحقوق الشخصية. (2023). تقرير عن أوضاع النساء العاملات في القطاعات غير الرسمية بمصر. القاهرة، مصر

منظمة العمل الدولية. (2023). تقرير العمل غير الرسمي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا: حالة مصر. جنيف، سويسرا.

البنك الدولي. (2023). تقرير الفقر واللامساواة في مصر 2023. واشنطن العاصمة، الولايات المتحدة

منظمة الصحة العالمية – المكتب الإقليمي لشرق المتوسط. (2023). تقرير السلامة على الطرق في مصر 2023. القاهرة،

بوابة الأهرام. (2023، ديسمبر 15). مصر ضمن أعلى 10 دول في وفيات حوادث الطرق بحسب تقرير وزارة النقل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock