مقالات وآراء

حين أغرقت السماء الأرض… تكساس تحت رحمة الطوفان

فيضانات يوليو 2025 في مرآة الألم والمساءلة

حين أغرقت السماء الأرض… تكساس تحت رحمة الطوفان
فيضانات يوليو 2025 في مرآة الألم والمساءلة
بقلم د/ سماح عزازي
حين بكت السماء… وصمتت الأرض
ثمة مشاهد تفوق قدرة اللغة، ولحظات يتراجع فيها وهج الحضارة أمام غضب الطبيعة.
في ولاية تكساس الأمريكية، لم يكن شهر يوليو 2025 مجرد صفحة في تقويم الصيف، بل كابوسًا موحشًا نُقش بماء الغرق ودموع الفقد.
فيضانات طوفانية ضربت المدن والبلدات، قوضت البيوت، اقتلعت الطرق، وجرفت معها أرواحًا بريئة، في مشهد أعاد للأذهان قصص الطوفان الأول، حيث لا ملجأ إلا للجبال أو رحمة السماء.
لقد تجاوز الأمر حدود العاصفة، وتخطى تصنيفات الأرصاد، ليغدو إنذارًا صارخًا لطبيعة أنهكها الإنسان، وتجاهل توازنها لقرون.
الخرائط الغارقة… قلب تكساس ينبض في الماء
تكساس، الولاية الشاسعة التي تمتد على أقاليم جغرافية متباينة، عاشت خلال الأيام الأولى من يوليو 2025 على وقع كارثة مناخية غير مسبوقة.
سحب داكنة انقضت على الجنوب والوسط، تلاها هطول مطري كثيف تجاوزت كمياته 15 إنشًا (نحو 381 ملم) في أقل من يومين، وهو معدل يفوق ما يسقط خلال شهرين كاملين.
ومع تزايد الضغط على الأنهار والسدود، فاض نهر “غوادالوبي” ليصل ارتفاعه إلى أكثر من 26 قدمًا في ساعة واحدة فقط، جارفًا ما وجده في طريقه: سيارات، أشجار، منازل، بل وحتى أحلامًا كانت تنتظر الصباح.
ضحايا ومفقودون… وقصص معلّقة على قارب نجاة
خلف الأرقام الباردة تختبئ مآسٍ إنسانية.
أعلنت السلطات وفاة ما لا يقل عن 82 شخصًا، من بينهم أطفال ومشرفة من معسكر صيفي للفتيات في مقاطعة كير، ولا يزال العشرات مفقودين، تتنازعهم مياه الفيضانات التي لم تهدأ بعد.
ومع تحرك قوات خفر السواحل وطائرات الإنقاذ والمروحيات، تم إنقاذ نحو 850 شخصًا من الموت المحقق، بعضهم علقوا على أسطح منازلهم لأكثر من 12 ساعة متواصلة، في انتظار يد تنتشلهم من حضن الموت.
وفي الأحياء التي غمرتها المياه حتى منتصف الجدران، ظل الصمت سيد الموقف، سوى من نداءات الاستغاثة وصراخ الأطفال، أو طرقات خافتة من داخل بيوت مغمورة لم يصلها أحد بعد.
شهادات الواقع… حين تتحدث الأرقام
وفي خضمّ المشهد الإنساني المفجع، جاءت الأرقام الرسمية لتكشف حجم الكارثة البيئيّة التي ضربت تكساس في يوليو 2025، فقد أعلنت وكالة الطوارئ الفيدرالية الأمريكية (FEMA) حالة “كارثة كبرى” في مقاطعة كير، مُفعّلةً خطط الإغاثة السريعة التي شملت دعم السكن المؤقت، إصلاح المساكن، وتعويض المتضررين عبر تطبيق FEMA وموقع DisasterAssistance.gov.
ووفقًا لتقارير الوكالة وبيانات وكالة ناسا للمطر (GPM)، فإن بعض مناطق الولاية سجّلت أكثر من 381 ملم من الأمطار في أقل من يومين، ما أدى إلى فيضان نهر “غوادالوبي” بارتفاعٍ تجاوز 26 قدمًا خلال أقل من ساعة.
وبينما أُشيد بجهود الإنقاذ، أُثيرت تساؤلات صادمة حول غياب أنظمة الإنذار المبكر في بعض المقاطعات، رغم التحذيرات المتكررة منذ عام 2016، ما كشف عن هشاشة البنية التحتية، وقصور الاستعدادات الفعلية لمواجهة الكوارث المتطرفة.
البنية التحتية والاختبار الصعب
لا يمكن الحديث عن فيضانات تكساس دون التوقف أمام البنية التحتية المهترئة التي لم تصمد أمام اختبارات الماء والغضب.
فعلى الرغم من مليارات الدولارات التي خُصصت في السنوات الماضية لتطوير مصارف السيول وتقوية السدود، إلا أن الواقع أثبت أن كثيرًا من هذه الجهود إما كانت متأخرة، أو مجرد حبر على خرائط مخططة دون تنفيذ فعلي.
مدن كاملة مثل كيرفيل، فريدريكسبورغ، وأجزاء من هيوستن وجدت نفسها في مواجهة الماء دون دفاع حقيقي، مما فاقم الخسائر المادية والبشرية، وكشف عن ثغرات كبيرة في منظومة إدارة الأزمات.
الطبيعة التي لا تغفر… وتغير المناخ القادم
الفيضانات لم تكن حادثًا منعزلًا، بل حلقة في سلسلة كوارث متزايدة تضرب أمريكا والعالم.
ومع تصاعد مؤشرات التغيّر المناخي، وازدياد الأعاصير والحرائق والفيضانات حول العالم، بات من المحتم أن نعيد التفكير في علاقتنا بالطبيعة، وفي مسؤولية الإنسان عن دفع التوازن البيئي إلى حافة الانهيار.
إن ما حدث في تكساس ليس مجرد خلل في الطقس، بل تذكير مرعب بأن الكوكب يختنق، وأن كل تأجيل أو إنكار أو تهاون، سيدفع ثمنه الأبرياء.
الطوفان لا ينتظر النادم
حين تنسحب المياه، وتظهر خطوط الطين على الجدران، وتُروى القصص عن لحظات النجاة أو الفقد، سيبدأ الناس رحلة النسيان التدريجي.
لكنّ التاريخ لا ينسى.
والطبيعة لا تنسى.
والمأساة التي دوّنها يوليو 2025 في سجل الكوارث الأمريكية، ستظل حاضرة في الأذهان، إنذارًا لمن ألقى السمع وهو شهيد.
فلربما آن الأوان أن ندرك أننا لم نعد فوق الطبيعة، بل صرنا على الهامش… وأنّ كل قطر مطرٍ بات يُحتمل أن يكون نذير طوفان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock