مقالات وآراء

حين يُختبر الوطن في لحظة أزمة

جريدة الصوت

بقلم – نيفين صلاح

عندما تلقيت نبأ اندلاع الحريق في سنترال رمسيس،

غمرني قلق عميق، ليس لمجرد وقوع الحادث في قلب العاصمة،

بل لما يمثله هذا الموقع الحيوي من محور رئيسي في منظومة الاتصالات الوطنية. تساءلت،

كغيري من المواطنين، هل نحن أمام أزمة كبرى قد تعطل الخدمات الحيوية؟

هل هناك خطط بديلة جاهزة؟

بدأت أتابع ردود الأفعال على منصات التواصل الاجتماعي،

فوجدت فيضاً من الانتقادات المبالغ فيها،

والتشكيك في قدرة الدولة على التعامل مع مثل هذه الأزمات.

بعض الأصوات توهمت أن مصر بأكملها تعتمد على سنترال واحد فقط،

وتصوروا أن الحريق قد يعطل الحياة برمتها،

حتى وصل بعضهم إلى القول إن أي تهديد مستقبلي لهذا المبنى قد يشل البلاد،

كأننا نعيش في بلد بلا تخطيط ولا بنية تحتية متطورة.

لكن ما شاهدته شخصياً، وما رصدته من تقارير رسمية وميدانية، كان مختلفاً تماماً.

فقد تمكنت قوات الحماية المدنية من السيطرة على الحريق بسرعة مذهلة،

دون تسجيل خسائر بشرية،

بينما باشرت فرق الدعم الفني تفعيل خطط الطوارئ،

وتحويل الخدمات إلى سنترالات بديلة، مثل سنترال الروضة،

والاعتماد على مركز البيانات الحكومي في العاصمة الإدارية،

الذي أثبت جدارته في مثل هذه الظروف.

لا شك أن بعض الخدمات تضررت جزئياً، وهو أمر طبيعي في مواجهة أية أزمة مفاجئة، إلا أن الأهم هو سرعة وفعالية التعامل مع الحادث، واستعادة أغلب الخدمات خلال أقل من أربع وعشرين ساعة. كما أن هيئة الإسعاف أعلنت فوراً أرقاماً بديلة للتواصل في حالة تعطل الرقم الأساسي 123، مما يدل على وجود منظومة متكاملة واستجابة فورية.

المحزن حقاً هو استغلال بعض الأصوات لهذه الأزمة للنيل من جهود الدولة، بنشر الشكوك بدلاً من البحث عن الحقيقة. هؤلاء لا يفرقون بين النقد البناء والتشهير، ولا بين المطالبة بالشفافية والتشكيك المستمر. في دول كبرى حول العالم، نسمع عن أعطال تقنية أو كوارث طبيعية تعطل مؤقتاً البنوك أو المطارات أو وسائل النقل، ومع ذلك، يبدي المواطنون فيها الدعم والصبر حتى تجاوز الأزمة. أما نحن، فما أن نواجه أزمة عابرة حتى تنتشر نظريات المؤامرة والانتقادات اللاذعة، وكأننا لا نعيش في دولة تسعى للتطوير، وبذلت جهوداً هائلة لتحديث بنيتها التحتية الرقمية خلال السنوات الأخيرة.

أنا كمواطنة مصرية، أرى أن ما حدث ليس كارثة، بل اختبار حقيقي لمنظومة العمل والاستجابة السريعة، وقد نجحت الدولة في تخطيه بكفاءة. ومثل هذه التجارب يجب أن تكون فرصة لتقييم الأداء وتعزيز الثقة بقدرتنا على مواجهة التحديات. النقد مطلوب، لكنه يجب أن ينبني على وعي، والدعم واجب، خصوصاً حين نلمس نتائج ملموسة وجهوداً حقيقية تُبذل من أجل الوطن.

تابعت الخبر وأنا أشعر أن قلبي يحترق قبل المبنى. فهذا المكان ليس مجرد مبنى إداري قديم بالنسبة لي، بل هو جزء من تاريخ عائلتنا وذكريات جارنا رحمه الله الذي خدم فيه مديراً لأكثر من ثلاثين عاماً.

كنت طفلة صغيرة، لكني ما زلت أذكر تلك الأيام: كيف كان يخرج صباحاً بهدوء، يحمل مفاتيح كثيرة وأوراقاً مرتبة، وخطة يومية تملأ ذهنه. كان يعرف الجميع، من تأخر عن أمه، ومن يفكر في الزواج، ومن مرضت ابنته، ومن يكتب الشعر في الخفاء. كان محبوباً، وإذا مرّ بينهم قاموا احتراماً لا خوفاً.

كان جارنا جسراً بين الصوت والرسالة والمتلقي. حرص على إصلاح الأعطال فور وقوعها، حتى لا يشعر أحد بالوحدة في ليل القاهرة الطويل. أتذكر ذات مرة، حين اختبأت خلف مكتبه البني، وكرسيه الجلد الزيتي الملكي، رأيت أسلاكاً ملونة ظننتها ألعاباً سحرية، فابتسم وقال لي بهدوء: “هذه ليست مجرد أسلاك، إنها قلوب ترسل رسائل.”

لم يكن عمله يقتصر على الأوراق والمكاتب فقط، بل كان يتحرك ليلاً إذا شكا أحد المواطنين من مضايقات هاتفية، يتحرى بنفسه ويتابع بحكمة دون أن يوقع أحداً.

أتذكر تلك الليلة حين اتصلت سيدة تبكي من كثرة المعاكسات، فتولى جارنا الأمر بنفسه وحل المشكلة خلال ساعات.

لم يكن ينظر إلى المشاكل كحوادث عابرة فقط، بل كان يخطط لما هو أبعد، من أبرز أفكاره الدعوة إلى توزيع مهام السنترالات على مواقع متعددة، وضرورة اللامركزية.

واليوم، وأنا أرى الدخان يتصاعد من نوافذ ذلك المبنى العتيق، شعرت كأن جزءاً من ذاكرتي قد احترق، لكن ما تركه جارنا من أثر وضمير يقظ يواسي قلبي، ولن تمسه النيران أبداً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock