
بقلم احمد شتيه
باحث فى الشأن الاستراتيجي والامن القومى
في مشهدٍ إعلامي لافت، تصدّرت أخبار حصول إسرائيل على أرشيف الجاسوس الشهير “إيلي كوهين” واجهات الصحف ونشرات الأخبار، واحتفت بها شخصيات بارزة في جهاز الموساد وكأنها إنجاز استخباراتي نوعي جديد يُضاف إلى سجل الجهاز الأسطوري ، لكن خلف هذه الاحتفالية الصاخبة، تطرح التطورات الأخيرة أسئلة مُلحة تتجاوز البُعد الاستخباراتي، وتغوص في أبعاد السياسة، والرمزية، وربما حتى الصفقات السرية.
الإعلان الإسرائيلي تضمن عرض صور ووثائق شخصية تعود للجاسوس “إيلي كوهين”، جرى الحصول عليها من سوريا، دون تفاصيل واضحة حول كيفيتها ، الملفت أن هذه المواد تم تسليمها لإسرائيل بينما لا يزال مصير رفات كوهين مجهولاً منذ إعدامه في دمشق عام 1965، مما يثير علامات استفهام حول الدافع الحقيقي وراء هذه “الهدية”.
لا يمكن إنكار القيمة الرمزية لأي معلومة تتعلق بكوهين، الذي يُعد أيقونة تجسس إسرائيلية تمكّن من التغلغل في أعلى مستويات صنع القرار السوري في الستينات ، لكن من الناحية العملية، فإن أرشيفاً مضى عليه أكثر من نصف قرن لا يقدّم جديداً استراتيجياً، بل هو أشبه بـ”تذكار تاريخي” لا يُترجم إلى تفوق عملياتي ولذلك، فإن التهويل الإعلامي يُخفي وراءه رغبة إسرائيلية في توظيف الحدث سياسياً لا استخباراتياً.
توقيت تسليم الأرشيف، من دون الإفراج عن جثمان كوهين، يوحي بأن هناك “عربون نوايا” تحاول دمشق تقديمه في إطار تفاهمات إقليمية أو ضغوط دولية ، سوريا اليوم، التي تعاني من عزلة سياسية وعقوبات خانقة، قد تكون تبحث عن موطئ قدم دبلوماسي عبر قنوات خلفية، وربما وجدت في ورقة كوهين –ولو جزئياً– فرصة للتفاوض.
رسائل إسرائيل للعالم
من خلال الترويج الكبير للحدث، تحاول إسرائيل تثبيت عدة رسائل ، كصورة الموساد الأسطورية التى ترسخ لجهاز لا ينسى رجاله، حتى بعد عقود، في إطار ما يُعرف بـ”أخلاقيات الدولة العبرية” تجاه جنودها وعملائها.
التأكيد على الاختراق التاريخي وتسليط الضوء مجدداً على مدى تغلغل كوهين في قلب النظام السوري، تذكيراً بقدرة إسرائيل على الوصول إلى عمق الخصم.
ترسيخ التفوق الرمزي على النظام السوري والذى مع مرور الزمن، تُصر إسرائيل على أن الهيبة ما زالت في جانبها، وأنها تمسك بخيوط “السردية” التاريخية للصراع على الرغم من انها تلقت اكبر صفعة استخبارتية فى تاريخها بعدم معرفة موعد حرب السادس من اكتوبر وما سبقه من خداع استخباراتي هز الداخل الإسرائيلي بجميع اجهزته المخابراتية .
وتأتى هذه الضجة الإعلامية ليس بسبب أهمية الأرشيف بحد ذاته، بل لملء فراغ سياسي في منطقة تغلي بالتحولات ، فإسرائيل بحاجة دائمة إلى جرعة “نصر إعلامي” وسط ملفات إقليمية حساسة ، كما أن إبقاء الغموض حول جثمان كوهين يعطي زخماً درامياً، ويُبقي الباب مفتوحاً لمزيد من الابتزاز السياسي أو “المفاجآت” القادمة.
في النهاية، ما جرى ليس بالضرورة انتصاراً استخباراتياً، بل أقرب إلى فصل جديد من “الحرب النفسية”، حيث الرموز أهم من الوقائع، والرسائل المُبطنة أثقل من النتائج الظاهرة ، فبين مجد الموساد المزعوم، ومكر السياسة الإقليمية، تبقى قصة إيلي كوهين أداة في لعبة المصالح، وليس فقط حكاية جاسوس دُفن دون أن يُنسى.