
رؤية الاستاذة / فيفى سعيد محمود
مداخلتى فى ندوة عن الروائى العالمى نجيب محفوظ وهى بعنوان
التصوف في أدب نجيب محفوظ “
حاضر فيها الكاتب رابح محمود والشاعر محمد كامل
ومداخلات للأدباء والمبدعين سامى دياب ومحمد وحيد وطارق مراد ومحمد عبد المعز
وأدار الندوة باقتدار الشاعر ايمن عبده رئيس نادى أدب بيت ثقافة الصف .
بداية
تصوف نجيب محفوظ هو تصوف العقل والتأمل الفني، لا يعتمد على الزهد الطقوسي بل على التجربة الإنسانية والفلسفية والرمزية. قدم تصوفًا حديثًا، يناسب الإنسان المعاصر، الذي لا يزال يبحث عن المعنى وسط صخب الحياة المادية والسلطة والاغتراب.
تصوف نجيب محفوظ لم يكن على الطريقة الصوفية التقليدية التي تتسم بالزهد والخلوة والتقشف، بل كان تصوفًا فكريًا وفنيًا رمزيًا، امتزج بوعيه الفلسفي وقراءاته في الموروث الديني والأسطوري والوجودي.
و تجلى هذا التصوف في أعماله خصوصًا في المراحل المتأخرة، حيث اقترب من التأملات الروحية والأسئلة الوجودية الكبرى.
ملامح التصوف في أدب نجيب محفوظ:
الروحانية الرمزية:
في أعمال مثل “أولاد حارتنا” و”رحلة ابن فطومة” “التجليات”، وتظهر الرحلة كرمز للسعي الروحي، والبحث عن المطلق، تمامًا كما يفعل المتصوف في طريقه إلى الله.
البطل غالبًا ما يكون سالكًا، يخوض رحلة تحول داخلي، بحثًا عن معنى أعمق للحياة.
الوجود الإلهي والبحث عن الحقيقة:
شخصية “الجبلاوي” في أولاد حارتنا تشبه في رمزيتها الوجود الأعلى أو الحق الإلهي، الغائب الحاضر، الذي يراقب ولا يتدخل، مما يخلق تساؤلات صوفية حول العدل الإلهي ومعنى الشر.
الفناء والبقاء (مفاهيم صوفية):
في رواياته المتأخرة، خصوصًا “أصداء السيرة الذاتية”، يظهر مفهوم “الفناء في المطلق” بشكل غير مباشر، عبر تأملات وجودية تنم عن رؤية روحية للحياة والموت والخلود.
المحبة فى أعمال محفوظ
في كثير من نصوصه، يبرز الحب سواء كان حب الإنسان لله، أو للناس كقيمة مركزية، وهي فكرة جوهرية في التصوف الإسلامي.
أعمال حملت طابعًا صوفيًا بارزًا:
رحلة ابن فطومة رحلة رمزية تشبه رحلة المتصوف في البحث عن “دار الإيمان” (رمز المطلق أو المدينة الفاضلة)
“التجليات” نصوص أقرب إلى الحلم والتأمل، مشبعة بالفلسفة الصوفية والرموز الروحية
أصداء السيرة الذاتية تأملات موجزة تمزج بين الذات والكون، بطريقة أقرب إلى الحكمة الصوفية
“ليالي ألف ليلة” مزج بين الأسطورة والروحانية، مع حضور لافت لفكرة “القَدَر”
وهنا تصوف محفوظ في كلماته وليس فى اعتناقه للصوفية
في أحد حواراته قال:
“أنا أقف على مشارف التصوف، وأراقب الطريق، لم أدخله، ولكنني مأخوذ بضيائه.”
هذا التصريح يلخص ببلاغة موقفه: تصوف عقلاني لا يغرق في الغيب، بل يطرحه بأسئلة وفن وإشارات.
ولو عدنا بالقراءة مرة أخرى
لرواية “أولاد حارتنا” لنجيب محفوظ فهى من أكثر أعماله إثارة للجدل والغموض، وهي رواية رمزية فلسفية من الطراز الأول، تجمع بين الأسطورة والدين والواقع الاجتماعي في بنية روائية متماسكة وعميقة.
نبذة عن الرواية:
كتبت عام 1959، ونُشرت أولاً في جريدة الأهرام، لكنها لم تُنشر في كتاب داخل مصر إلا بعد سنوات طويلة بسبب الجدل الذي أثارته، إذ اعتبرها البعض إسقاطًا على قصص الأنبياء وتناولًا رمزيًا للتاريخ الديني، مما دفع الأزهر للاعتراض عليها، وتسببت في محاولة اغتيال نجيب محفوظ لاحقًا على ما اعتقد
وأهم ما يميزها الرموز
الرواية تدور في “الحارة”، ككل رواياته التي ترمز إلى العالم الإنساني، ويعيش فيها “الجبلاوي”، وهو شخصية أسطورية رمزية تعبر عن الذات الإلهية أو القوة العليا، لكن محفوظ لم يقدمها بصورة مباشرة.
وتمر الحارة عبر أزمنة متعددة، يظهر خلالها خمسة من “أولاد الحارة” الذين يمثلون رموزًا دينية واضحة:
أدهم يرمز إلى آدم
جبل يرمز إلى موسى
رفاعة يرمز إلى عيسى (يسوع)
قاسم يرمز إلى محمد
عرفة يرمز إلى العِلم أو الإنسان الحديث، ويأتي في نهاية الرواية ليطرح بديلاً عن الحلول
بالمنطق الفكري وفني نظرة على أسلوب محفوظ من حيث
اللغة والأسلوب:
استخدم محفوظ لغة سردية قريبة من الأسطورة، وبنى عالمًا متخيلًا لكنه يحمل كل ملامح الواقع المصري الشعبي.
الجمع بين البنية الدينية والأسلوب القصصي الشعبي خلق عالمًا رمزيًا شديد الثراء.
القضية المحورية التى تمركزت حولها الرواية
سؤال العدالة والشر والسلطة: لماذا يعاني الناس؟ ولماذا لا يتدخل “الجبلاوي” لإنقاذهم؟
محفوظ يطرح أسئلة وجودية عن دور الله، والأنبياء، والعلم، والناس في مواجهة الظلم.
التطور الرمزي:
تبدأ الرواية بالاعتماد على الرموز الدينية، وتنتهي بـ “عرفة” الذي يحاول أن يقاوم الظلم بالعِلم والمعرفة، وهو ما اعتبره البعض دعوة محفوظ إلى استخدام العقل والعلم كوسيلة لتحرير الإنسان.
لماذا أثير الجدل حول الرواية؟
اتُّهم محفوظ بالإلحاد أو الإساءة للرموز الدينية، رغم أنه نفى ذلك، مؤكدًا أن العمل رمزي وفلسفي وليس دينيًا.
اعتبرها كثير من النقّاد أعظم رواية عربية، وسببًا مباشرًا في حصوله على جائزة نوبل.
ومن هنا نقول أن
“أولاد حارتنا” ليست مجرد رواية، بل صرخة فلسفية عميقة تطرح أسئلة الوجود والعدالة والسلطة، وتدعو الإنسان إلى تحرير نفسه بالعقل والمعرفة. هي ملحمة رمزية تمزج بين الدين والأسطورة والتاريخ والواقع، في سرد درامي مكثف يجعلها واحدة من أعمدة الرواية العربية الحديثة.