مقالات وآراء

محمد رضا.. اغتيال ما قبل السلام

جريدة الصوت

 

بقلم د/سماح عزازي

صفى الإحتلال الإسرائيلي العالم النووي الإيراني محمد رضا في الساعات الأخيرة قبيل وقف إطلاق النار.. في لحظةٍ كان يُنتظر فيها أن تصمت البنادق، وتتوارى ألسنة اللهب خلف الأمل باتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وإيران، جاءت الضربة الإسرائيلية كصفعة على وجه الدبلوماسية، وكأنها تقول لا سلام بلا تصفية الحسابات.

ففي عملية وُصفت بالمعقّدة والدقيقة، أقدمت إسرائيل على اغتيال العالم النووي الإيراني البارز د. محمد رضا، قبل دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ بساعات، في ما اعتبرته طهران “طعنة في خاصرة الهدنة”، ورسالة بالغة القسوة إلى الداخل الإيراني والعالم بأسره.

ولم تكد الجمهورية الإسلامية تفيق من وقع الخبر، حتى أعلنت وسائل إعلامها الرسمية، وبصوتٍ مثقلٍ بالحزن، أن ابن العالم محمد رضا، قد قضى هو الآخر قبل عدّة أيام في ظروف غامضة، يُعتقد أنها مرتبطة بالسياق ذاته.. لتتحوّل المأساة إلى جريمة مزدوجة تتقاطع فيها السياسة والاستخبارات والدم.

عندما يُغتال العِلم في معترك السياسة

محمد رضا لم يكن رجلاً عادياً في الأوساط العلمية الإيرانية.. فهو أحد العقول النادرة التي شاركت في تطوير البرنامج النووي الإيراني في بعده المدني والدفاعي.. وكان يُنظر إليه كأحد الركائز التقنية التي لا يمكن تعويضها.. امتزج اسمه في تقارير استخباراتية غربية بالتصنيفات الحسّاسة، وحُمِّل في أروقة السياسة الغربية أكثر من طاقته، حتى أصبح هدفاً مشروعاً في أجندة إسرائيل الأمنية.

لقد أثبتت التجربة أن إسرائيل، حينما تشعر باقتراب لحظة “التهدئة”، تسرع بخطى الاغتيال، وكأنها تستعجل تصفية الأهداف قبل أن يُسدل الستار مؤقتًا على العمليات العسكرية.. وهو ما حدث مع محمد رضا، الذي طالته يد الغدر قبل أن يضع توقيع الهدنة خاتم الأمان على المشهد.

خرق للعرف السياسي أم رسالة استراتيجية؟

لم يكن اغتيال العالم النووي الإيراني حدثًا عابرًا، بل جاء في توقيت بالغ الرمزية. ففي عرف النزاعات، يعتبر ما قبل التهدئة مساحة آمنة نسبيًا، يحترم فيها الطرفان خطوط الاشتباك حتى لو كانت المعارك على أشدها. لكن إسرائيل، في تجاوزٍ لكل الأعراف، استخدمت اللحظة الأخيرة كنافذة لتوجيه ضربة لا تستهدف شخصًا فقط، بل تضرب في عمق القدرة العلمية الإيرانية، وترسل إشارة مباشرة إلى مراكز القرار في طهران: “لن تتوقف أذرعنا بوقف إطلاق النار”.

ورغم أن الاغتيال لم يُنفّذ داخل الأراضي الإسرائيلية أو حتى على خط الجبهة، بل يُعتقد أنه تم عبر عملية نوعية باستخدام طائرة مسيّرة أو فرق خاصة، فإن دلالاته تتجاوز الجغرافيا إلى رغبة إسرائيل في رسم خطوط حمراء جديدة، لا تعبأ هذه المرة بحساسية المرحلة أو احتمالية نسف مسار التفاوض.

إيران تندب عالمها… وتتوعد بردّ “محسوب”

الإعلام الإيراني لم يتأخر في النعي الرسمي، لكنه أيضًا لم يتأخر في التهديد بالرد. فرغم تبني طهران لهجة حذرة منعًا لانهيار الاتفاق المرتقب، إلا أن مؤشرات واضحة خرجت من دوائر صنع القرار، تُشير إلى أن إيران لن تترك الجريمة تمر دون حساب، لكنها تبحث عن ردّ “محسوب” لا يُفجّر الميدان مجددًا، بل يُعيد التوازن في معادلة الردع دون المساس بمسار وقف إطلاق النار.

وقد صرّح مصدر في وزارة الدفاع الإيرانية لوكالة “إيرنا” أن “إسرائيل اختارت التوقيت بدقة، ونحن نختار الردّ بدقة أكبر”، في إشارة إلى أن إيران قد تلجأ إلى الرد غير المباشر أو استخدام أدواتها في الإقليم ضمن نطاق “الرد بالوكالة”، دون أن تدخل مواجهة مباشرة قد تؤدي إلى حرب مفتوحة.

المجتمع الدولي بين الصمت والتواطؤ

كالعادة، لم يصدر عن الدول الكبرى سوى بيانات خجولة تدعو إلى “ضبط النفس”، فيما تجاهلت معظم المؤسسات الدولية العملية برمتها، وكأنها حادث عرضي لا يستحق التنديد أو التحقيق. ومجدداً، تظهر ازدواجية المعايير الغربية في تعاطيها مع الضحايا، حينما يكون الضحية عالماً إيرانياً، والجاني طرفًا تدعمه واشنطن ولندن وباريس.

بل إن بعض التحليلات الغربية حاولت تبرير الاغتيال بكون محمد رضا “عنصرًا محوريًا في مشروع يشكل تهديداً لأمن إسرائيل”، متناسية أن القانون الدولي لا يشرّع الاغتيال السياسي ولا يبرّر استهداف المدنيين أو العلماء تحت أي ذريعة.

ما بعد الاغتيال… هل تهتزّ الهدنة قبل أن تولد؟
رغم إعلان دخول وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ بعد ساعات من الاغتيال، فإن ثقة إيران في جدوى التهدئة أصيبت بجرح غائر. فكيف يمكن للسلام أن يُبنى على دماء؟ وكيف تُقبل التهدئة بعد أن قُدّمت لها رائحة البارود قربانًا؟

لا شك أن الأيام المقبلة ستكشف مدى هشاشة الاتفاق، خصوصًا إذا تراكمت الاستفزازات أو تكررت الضربات. أما إذا اختارت طهران طريق الردّ المتأني، فإن المشهد سيظل مشحونًا بالغضب، مرشّحًا لانفجارات مؤجلة.

حين يموت العلماء… تندبهم الأوطان وتكبر الظلال
في المشهد الأخير، لم يكن محمد رضا مجرد رقم في قوائم الاستهداف، بل كان عقلاً لبلاده، وسلاحًا غير مرئيٍ في معركة الوجود. اغتياله لن يُطفئ وهج العلم، لكنه يُرسل رسالة لكل العقول الحرّة: إن ساحة الصراع لم تعد تفرّق بين الجندي والعالِم، بين من يحمل السلاح ومن يحمل القلم.

إن اغتيال محمد رضا هو فصل آخر في كتاب الصراع المعقّد، حيث لا مكان للحياد، ولا حصانة لمن يُمثّل التقدّم والمعرفة في أوطان تُحاصرها القنابل من السماء والمكائد من تحت الأرض.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock