دين ومجتمع

الشام تحت سيطرة السلطان قلاوون 

جريدة الصوت

بقلم / محمـــد الدكـــروري

الحمد لله الذي جعل حب الوطن أمرا فطريا والصلاة والسلام على من أرسله الله تعالى رسولا ونبيا وعلى آله وصحابته

والتابعين لهم في كل زمان ومكان،

أما بعد ذكرت المصادر التاريخية الكثير عن دولة المماليك في مصر،

وذكرت المصادر التاريخية أن السلطان قلاوون عندما إستطاع أن يحقق النصر علي الصليبيين

وأن ينتزع منهم طرابلس وكان ذلك في شهر محرم سنة ستمائة وثماني وثمانين من الهجرة،

ولم يلبث المسلمون أن إسترجعوا المراكز التي أخلاها الصليبيون قرب طرابلس

مثل أنفة والبترون وبيروت وجبلة وبذلك لم يبقي للصليبيين من ملكهم العريض في الشام سوى عكا وصيدا وصور وعثليث،

ومن الواضح أن عكا كانت أعظم هذه المدن الصليبية وأمنعها،

وأنها صارت المركز الجديد لمملكة بيت المقدس اللاتينية بعد أن إسترجع صلاح الدين بيت المقدس للمسلمين.

ومع ذلك فإنه لم يكن في نية السلطان قلاوون مهاجمة عكا عقب إستيلائه على طرابلس مباشرة،

ذلك أن قلاوون إتجه إلى دمشق، حيث وافق على تجديد الهدنة مع الصليبيين لمدة عشر سنوات، وقد شكل سقوط مدينة طرابلس صدمة عنيفة لسكان عكا، كما أثار النقمة في الغرب الأوروبي، وجعل المدن الصليبية في الشام تحت رحمة السلطان قلاوون وكتب البابا نقولا الرابع إلى ملوك الغرب يلتمس منهم تقديم المساعدة، لكن أحدا لم يجبه نظرا لإنشغال كل ملك بمشاكله الداخلية، ولم يلبي نداء البابا سوى جماعات فقيرة من شمالي إيطاليا الذين تطلعوا إلى مغامرة تعود عليهم بالمنفعة، ولم يكن البابا راضيا عنهم، غير أنه قبل مساعدتهم مضطرا، وجعلهم تحت رئاسة أسقف طرابلس، وقدمت البندقية عشرين سفينة وألف وستمائة مرتزق، كما قدم ملك أراغون خمس سفن حربية.

وبينما الصليبيون بالشام يخطبون ود السلطان قلاوون، وصلت تلك الجموع الصليبية من إيطاليا وهي تفيض حماسة، وفي الوقت نفسه ينقصها النظام والخبرة وضبط النفس، فاعتدوا على المسلمين خارج أسوار عكا مما أنذر بتجدد الحرب بين المسلمين والصليبيين، وأخذ قلاوون يعد العدة للقيام بعمل حربي كبير ضد عكا، ولم يكد السلطان قلاوون يفرغ من إستعداداته الحربية، ويغادر القاهرة لحرب الصليبيين في الشام وإسترجاع عكا، حتى توفي فجأة في السابع من شهر ذي القعدة من سنة ستمائة وتسع وثمانون من الهجرة، وكان قلاوون قد جعل ولاية العهد لإبنه علاء الدين علي، لكن هذا الأخير توفي في حياة أبيه سنة ستمائة وسبع وثمانون من الهجرة، ولم يبقي سوى إبنه الآخر صلاح الدين خليل الذي كان مكروها من الأمراء لما عرف عنه من قسوة وعدم تمسك بقواعد الدين.

فكان توليه العرش صعب بوجود تلك المعارضة، كما قيل أن والده لم يكن راضيا عن تصرفاته ولم يثق به، وإعتقد أنه غير كفء لتولي السلطنة، ورفض أن يوقع التقليد له بولاية العهد، وتوفي ولم يعهد لولده بالمُلك، إنما لم يكن ذلك مانعا من أن يؤول إليه، خاصة وأن الموقف السياسي كان يتطلب قيام سلطان جديد على وجه السرعة ليقود الحملة التي كان قلاوون قد أعدها للقضاء على الصليبيين في عكا، وهكذا أقسم الأمراء الأيمان للسلطان خليل ولقبوه بالأشرف، فخلع عليهم ثم تأهب للخروج إلى الشام، وعندما علم الصليبيون في عكا أن السلطان الأشرف خليل تغلب على الصعاب التي واجهته، وأنه بصدد الخروج إليهم، حاولوا ثنيه عن عزمه، فأرسلوا إليه سفارة برئاسة أحد أعيان عكا الإفرنج وعضوية فارسين أحدهما من الداوية والآخر من الإسبتارية وكاتب، يسألون العفو.

ولكن السلطان لم يقبل منهم ما إعتذروا به، وبذلك لم يعد هناك مفر من القتال، خرج الأشرف خليل من القاهرة في شهر صفر سنة ستمائة وتسعون من الهجرة، وفي طريقه إلى دمشق وضع عياله وحريمه، ثم غادرها إلى عكا، وأرسل في الوقت نفسه إلى كل ولاة الشام بإمداده بكل وسائل النقل، لنقل الذخائر والجنود، ثم موافاته إلى أسوار عكا، وهكذا إجتمعت الجيوش الإسلامية من مصر والشام أمام آخر المعاقل الصليبية الرئيسية، وقدر عدد أفراد تلك القوات بستين ألف فارس ومائة وستين ألفا من المشاة، فضلا عن عدد ضخم من آلات الحصار والضرب منها إثنين وتسعين منجنيقا، فبدأ حصار المدينة ورميها بالمجانيق رميا متواصلا، وقد بذل الصليبيون جهدا مستميتا للدفاع عن عكا، فإستغاثوا بأوروبا الغربية، لكن إستغاثاتهم لم تؤدي إلا إلى نتيجة ضئيلة.

فحصلوا على بعض المساعدات من إدوارد ملك إنجلترا وهنري الثاني ملك قبرص، الذي أتى بنفسه للمشاركة في الدفاع عن المدينة، وتناست الطوائف الدينية العسكرية حزازاتها القديمة وتكاتفت للدفاع عن عكا، ولكن كل تلك الجهود ذهبت مع الريح، فاقتحم المسلمون المدينة في السابع عشر من شهر جمادى الأولى سنة ستمائة وتسعون من الهجرة، وفر الصليبيين في السفن الراسية إلى عرض البحر، حيث غرقت بعض السفن بسبب كثرة من تحمله من الفارين، ووقع من بقي منهم في الأسر، ولم تكد عكا تصبح في قبضة المسلمين حتى أمر السلطان بتدميرها وفق خطة موضوعة، حتى لا تبقى رأس حربة لما قد يقوم به الصليبيون من إعتداءات على الشام، كانت إستعادة المسلمين لعكا بمثابة الضربة الكبرى الختامية التي نزلت بالصليبيين في الشام، ولم يصبح للصليبيين بعد ذلك مقام في تلك البلاد، فاسترجع المسلمون في سهولة المراكز القليلة الباقية بأيديهم مثل صور وصيدا وطرطوس وعثليث، وأجلوهم عن تلك البلاد، فركبوا البحر عائدين إلى بلادهم الأوروبية، لتختتم بذلك صفحة الحروب الصليبية في المشرق الإسلامي بعد أن مضى عليها قرنان من الزمن.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock