
بقلم الكاتبة جيهان سيد
أخشى الوقوع في الحب مرةً أخرى، فما حدث لي سابقًا ليس بالهين، لقد تهالك جدار قلبي، فأخشى أن يتمزق ما تبقى من أوردته. أشعر وكأن التجربة تُعيد نفسها باختلاف الوقت، باختلاف المكان، باختلاف الأشخاص، ولكني أُقسم إنها تُشابهها في الأجواء، فلقد بدأت تجربتي الأولى في مثل تلك الأجواء، ولكنها باءت بالفشل، وأنا لست على استعداد أن أتذوق مذاق هذا الفشل مرةً أخرى.
فهل سأتعرض لما تعرضت إليه ثانيةً؟ سأقصّ عليكم ما يحدث معي…
منذ عدة أعوام، أتيت إلى مكان يشبه هذا المكان قليلًا، ووجدته جالسًا في إحدى الأركان. لقد كان يُجبرك على النظر إليه، يُجبرك على التأمل في عينيه البنيتين. لقد نظرت إليه كثيرًا، حتى ظل ينظر إليّ، ثم وجدته يهمس لي: “أتسمحين لي بهذه الرقصة يا سيدتي؟”
لا أعلم ماذا قلت حينها، ولكني أتذكر إنها كانت أفضل مرة تناغم جسدي فيها على أنغام الموسيقى. فلقد كُنت أشعر إنني أصبحت السندريلا التي تحقق حلمها، ورقصت مع الأمير. لم أشعر بمن حولي، لم أشعر إلا بكفّيه وهو يحتضن يداي الصغيرتين.
لِوَهلة شعرت أنه أبي، وأنني طفلته المُدللة. طال رقصنا سويًا، وبدأت قصتنا بداية تُشبه أفلام الرسوم المتحركة، أو الأفلام التي تُنتجها ديزني، وكُنت سعيدة للغاية، فما من فتاة لم تحلم أن تجد فتى أحلامها على طريقة الأميرات، ولكنني لم أكن أعلم أن هذه الأفلام تنتهي بعد مدة ليست بالطويلة…
لقد تسامرنا كثيرًا، حكى لي كل ما فعله خلال الأعوام التي مرت عليه – لا أعلم لماذا أخبرني، فأنا لم أسأله قط، ولكنه قال لي: أود أن تعرفي كل شيء عني!!
لقد كُنت أسمعه وأنا منتبهة له بكل ما نعم الله عليّ من حواس. حين كُنت أستمع إليه، كُنت أرى فيه شيئًا غريبًا، كُنت أرى فيه المستقبل!
كُنت أشعر بالأمان بجانبه!
كنت أتحدث لنفسي قائلة: هذه أول مرة تقابلينه، ماذا بكِ؟
ولم يخب ظني قط، فقد صرتُ لا أشعر بالأمان إلا وهو بجانبي.
كُنت أبوح له بما في داخلي، كان يتفهم ما أود قوله ولا أستطيع النطق به، كان يعلم متى يكون لي أخًا، أبًا، حبيبًا، صديقًا.
يتحملني في أسوأ حالاتي – لم أستطع وقتها التحديد، هل كُنت في حاجة للارتباط، أم كُنت في حاجة للاهتمام – كُنت بحاجة للشعور إنني من أولويات شخص ما، يشعرني كم أنا جميلة، يستيقظ صباحًا لأنه اشتاق لصوتي، يريد رؤية ملامحي، يخبرني من حينٍ لآخر أنه لا يستطيع العيش بدوني، يفعل معي كما فعل عمر الشريف مع فاتن حمامة، كما فعل رشدي أباظة مع سعاد حسني.
كُنت أتشوق لرؤياه، لسماع رواياته الليلية، كُنت أنصت لمغامراته اليومية. شعرتُ أنه أصبح جزءًا مني!
وجدتُ نفسي أمًا له! لا أعلم كيف حدث هذا، ولكني لم أتمكن من التحكم في مشاعري…
لقد أخبرني ذات مرة إنه وجد نفسه يتحمل مسئوليتي كاملة، أخبرني أنني ابنته التي لم يُنجِبها: عندما كُنتُ أخبرك بشيء كُنت أود سماع المزيد منكِ، كُنت أريد أن تبدأ حياتي وتنتهي معكِ. لقد تركتُ لكِ قلمي لتُسجلي به ما رغبتي من أحداث تُنعش حياتي الرتيبة…
بالفعل، كُنت أشعر أنني من أكتب سطور حياته، فقد كان ماضيه وحاضره كالكتاب المفتوح أمام طاولتي.
لقد قرأت ذات مرة أن من ستتزوجينه تكوني خُلِقتِ من ضلعه كما خُلقت حواء من ضلع آدم – لم أُصدّق هذه المقولة عندما قرأتها لأول مرة، ولكنني سلّمتُ بها عندما وجدته –
لقد كانت يداي ترتجف عندما تُلامس يداه، لا أشعر بالأمان سوى بقربه، كان يُمثّل لي أماني ومأمني وملجأي الوحيد، الذي أشعر فيه بالراحة بعيدًا عن ضوضاء العالم الخارجي…
عندما طلب مقابلتي لأول مرة، كانت تشعّ عيني حُبًا وشوقًا، تلهفت للّقاء الأول، فجريتُ على دولابي أبحث عمّا يجعلني ساحرة ومميزة، فوجدتُ ذلك الفستان الأسود الذي زادني رونقًا وإثارة.
فارتديته، ونظرت إلى مرآتي، واستخدمتُ أحمر الشفاه، ورسمتُ خطًا خفيفًا من الكحل الأسود، وصفّفت شعري ووضعته جانبًا مائلًا على كتفي، ووضعت القلادة الخاصة بي على رقبتي، ووضعت في إصبعي الخاتم الذي أهدته إليّ والدتي العام الماضي، وأخيرًا قبّلتُ نفسي في المرآة وذهبت للقائه…
لقد كان يومًا فريدًا، كُنت أراه بقلبي وأشعر به بعينيّ، شعرت أن حواسي تخبطت، ولكنها هدأت وسكنت عندما رأته.
وكما زادت دقات قلبي في أول لقاء، زادت في آخر لقاء، بل وتوقفت عندما طلب مني الرحيل…
لا أعلم ماذا حدث، ولكنه فجأة قرر الاختفاء من حياتي..!
أخفى وجوده، ولكنه لم يُخفِ ذكرياته..!
أخفى كيانه، ولكنه لم يُخفِ ملامحه المحفورة في ذاكرتي..!
أخفى حديثه لي، ولكنه لم يُخفِ ذبذبات صوته في أذني..!
أخفى قدومه، ولكنه لم يُخفِ رائحته في يدي..!
أخفى مقابلاته، لكنه لم يُخفِ ظهوره لي في أحلامي..!
أخفى كلامه، لكنه لم يُخفِ مُحدثاته لي..!
استطاع أن يُخفي كل شيء وَدّ إخفاءه عني، ولكن لم يتمكن من إخفاء حُبه لي…