الحمد لله رب العرش رب العوالم، يتولى الخلائق بلطفه فنعم الوكيل، ترى في الأناسي كل مصحح وسالم، وقد ترى فيهم الكل العليل، وفيهم ذوات الفضل الكرائم وصويحبات المعروف والخلق الجميل، وفيهم ذوات الكيد ربات الشتائم، قد أخذن من الأدب الشيء القليل، وأصحاب بدع قد خدعوا البراعم وقلة من أهل العلم والفكر الأصيل، وقليل من أهل الجد أصحاب العزائم، وكثرة من أرباب الجهل والرأي الهزيل، وأرباب طمع قد احتملوا المظالم ضيع الفقير فيهم واليتيم وابن السبيل، وكثرة ترعى كما ترعى البهائم لا الأمر ولا النهي يجدي والصبر قد عيل، ودعاة فسق قد اقتسموا المغانم، أفعالهم مهالك وأقوالهم تضليل، والإله من ورائهم محيط وعالم، قد يهدي ويصلح أو يرسل الطير الأبابيل، فدع الخلق لربهم وسلم وسالم فله الأمر من قبل ومن بعد كما جاء في التنزيل.
وأشهد أن لا إله إلا الله الحيّ الدائم، يقول الحق وهو يهدي السبيل، ألهم الإنسان من الخلق المكارم وحذره من الفعل والخلق الرذيل، أمره في السلم بأن يسالم وبالنصر حربا أو يكون هو القتيل، وأباح في الغنى التنوع في المطاعم، وحين الفقر عليه أن يقنع بالقليل، وإن عم القحط وجب التراحم وفي الرخاء يجود ولو بالقليل، وحال الصحة فعليه أن يزاحم مع الطائعين ويأتي بالعمل الجليل، وفي المرض رخص ما يلائم، كل عاجز وكذا الشيخ العليل، وإن إجتمع الناس على المحارم، فعليه أن يعتزل الفعل والقيل، وإن اجتمعوا على المعروف فالعالم يذكِّر والإمام يقرأ ولا يطيل، وإن تعارض الأمران فخيرهما يوائم، ويتجنب في أخراه الأخذ الوبيل، تلك أمارات على الطريق ومعالم، فإختر لنفسك من الصلحاء الخليل، وإحذر لدى الأوقات غفوة النائم وإياك، إياك لو أقبلت الدنيا أن تميل.
فكم طارت بأجنحة الغرور حمائم وهوت أسيرة الفخاخ بعد قليل، وكم فاحت بطيب الأريج براعم، صبحا فداستها النعال بحلول الأصيل، وقد يغدو الفحل مختالا بين السوائم وصاحبه يربيه طعاما للقبيل، فلذ بمليك العرش ودع عنك المزاعم راضيا خاضعا خضوع الذليل، وجنب ظهرك ويحك حملان المآثم، فصراط جهنم أدق من الفتيل، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله بالشرع قائم، من تبع سنته رشد، ومن تركها حرم الدليل، سائل كل منصف بالحق عالم، كيف كان الناس قبيل التنزيل، وكيف والحليم منهم بالصنم هائم، وطوافهم بالبيت صفق وعويل، وكيف والنساء فيهم للإماء توائم، وبناتهم عليهن التراب أهيل، تستصرخ الموءودة فيهم قلب راحم، أو عاقلا منهم لعثرة القوم يقيل، وضعيفهم أمسى وليس له من الظلم عاصم ويتيمهم أصبح مقهورا كالفصيل.
والبغاء أقيمت على موائده الولائم لكل راغب، وكذا الضيف النزيل، وشريفهم لفتاته مكرها يساوم طالب المتعة في المبيت أو المقيل، والميسر لهوهم والأنصاب لها مراسم والخمر من أجلها زرع النخيل، والوزن بخس والميزان بلا قوائم والغش بيع إذا نقص المكيل، والأمن مفقود والغاصب بغير لائم وحق الجار قد ضيع بالأفاعيل، تباغض وتدابر وتباعد وتظالم، وكفر وفسق وجهل يفتقد المثيل، فنزل الأمين والنور له ملازم على من بنور سنّته تمحى الأباطيل، فأنعم به مسكا للنبين خاتم وأكرم به مبعوثا للشرور يزيل، فانظر إذا شئت واقرأ في التراجم، لن تجد في الناس عذبا كهذا السلسبيل، لولاه ما إستيقظ من غفلة الشرك نائم ولأصبح إحياء القلوب من المستحيل، فيا رب صلي على تاج أولي العزائم، من ليس لشريعته شرع بديل، وجازه عن كل قائم من أمته وصائم.
وعن نوره الذي به إنقشع الليل الطويل، أما بعد لقد ميز الله عز وجل بعض الناس بصفات جليلة ومن هذه الصفات هي الهدوء، وإن المفاجآت والمعاكسات وخيبة الأمل والصدمات وما إليها من الأحداث لا تفصل عن الحياة أشياء ولا تزعزع كيان الشخص الهادئ، ولا تضعضع توازنه، فهو يبتعد عن مواطن الضجة والصخب، دون أن ينفق طاقاته في النواح والعويل والإرتباك والشكوى ويتخذ بكل برود التدابير الضرورية لمقاومة المفاجآت وتحوير الأحداث ونزع ما فيها من أذى وينصرف إلى ما تبقى له من وسائل العمل والإنتاج، وإذا حدث للهادئ خطب رهيب يشل جهود أعوام أو يقضي على آمال جسام، لا يذهب به الحزن في مجاهل لا رجعة له منها، ولا يوغل به العذاب في عتمة التشاؤم الخا ذل المخذل، وإنما يحتفظ بثقة في نفسه ويستجمع قواه لتلافي النتائج السيئة وبناء مستقبل يرضى عنه.
والهادئ يتألم موضوعيا لا ذاتيا، بمعنى أنه لا يعطف على نفسه في الملمات الكبار ولا يحنق من أجلها وإنما يعيد النظر دوما في الماضي وبكل روية وأناة، إلى أن يستعيد قوته رويدا رويدا وتشتد معنوياته، فيستأنف خوض معركة الحياة وهو مسلح بالعبر الماضية والمواقف السابقة حتى إذا واجه معارك جديدة، قال في نفسه “لقد عرفت غيرها من قبل” والمعروف عن سلوك النفس في داخلها أنها إذا كرهت أمرا كراهية عميقة، وشعرت إتجاهه بمقت بعيد الغور، توفق إلى تحقيق نقيضه ومحبة مضادة ولذا يصبح من الوسائل الناجعة في توجيه المرء نحو الهدوء، أن نرسم للراغبين فيه صور المضطرب وبشاعتها وحدها كفيلة بجعل رأيها هادئا”