مقالات وآراء

القبض على “أم مكة”.. سقوط مدوٍ لظاهرة المحتوى التافه تحت قبضة القانون

بقلم د/سماح عزازي
في زمنٍ صار فيه «الترند» سيّدًا متوجًا على عروش العقول، وصار الضوء الأزرق للشاشات الصغيرة أشبه بشمسٍ أخرى تحكم حياتنا، نشأت أصواتٌ تصدح لا بالغناء ولا بالكلمة الطيبة، بل بضجيجٍ صاخب يطعن الذائقة ويمزّق حرمة القيم. وبين زحمة ذلك الضجيج، صعدت «أم مكة»؛ بلوجر أثارت الجدل أكثر مما قدّمت فائدة، وصنعت من حياتها – وحياة الآخرين – مادة للتسلية الفجة، حتى باتت “مشاهداتها” هي القانون، و”الترند” هو المبدأ. غير أنّ الريح لا تدوم في اتجاه واحد، وأنفاس الصخب مهما علت لا بد أن تخفت، فجاءت اللحظة التي انقلب فيها المشهد رأسًا على عقب، حين دوّى خبر القبض على أم مكة كصفعة أيقظت المجتمع من غفوة، وكأنها رسالة تقول: «ليس كل ما يُقال يُباح، وليس كل ما يُنشر يُقبل».
هذه الحادثة لم تكن مجرد اعتقالٍ لشخص، بل كانت انعكاسًا لصراعٍ أكبر بين قيمٍ تتهاوى وقوانين تعود من سباتها لتضع خطوطًا حمراء. إنها قصة عن المحتوى الذي تحوّل إلى سلاح، وعن الشهرة التي تحوّلت إلى عبء، وعن لحظة سقوطٍ مدوٍّ صنعت من اسم «أم مكة» مثالًا حيًا على أن “الفوضى الرقمية” مهما طال عهدها، لا بد أن تخضع في النهاية لصوت النظام والضمير.
لم تكن حادثة القبض على البلوجر المعروفة بـ”أم مكة” مجرد خبر عابر في صفحات الحوادث، بل كانت بمثابة صرخة مدوية في وجه فوضى “المحتوى المبتذل” الذي اجتاح منصات التواصل الاجتماعي، وامتهن الذوق العام، وتجاوز حدود القيم والأخلاق. ففي لحظةٍ فارقة، بدا وكأن عجلة القانون استيقظت من صبر طويل لتضع حدًّا لمسلسل من العبث طالما استباح مساحاتنا الرقمية، وسمّم وجدان المتابعين، وحرّض على الانتهاك العلني لحرمة الحياة الخاصة.
القصة بدأت حين أعلنت علا شوشة – إحدى الشخصيات العاملة في مجال الإعلام الرقمي – أنها واجهت البلوجر “أم مكة” بما تقدّمه من محتوى “تافه ومشوّه” لا يمتّ إلى رسالة الإعلام بصلة، محتوى لا يجلب سوى الضجيج الرخيص على حساب كرامة الناس ومشاعرهم.
المواجهة تحوّلت إلى خلاف، والخلاف تصاعد إلى ما يشبه “العاصفة”، حين أقدمت “أم مكة” على إيقاف سير العمل في القناة التي كانت تُبثّ عبرها لمدة ثلاث ساعات كاملة، قبل أن يتطور الأمر إلى تعدٍّ مباشر على العاملين، ما دفع الإدارة إلى تحرير محضر رسمي ضدها.
لم يتأخر القانون هذه المرة. سرعان ما تم القبض على “أم مكة”، لتتصدر صورها وعناوين أخبارها مواقع التواصل التي طالما استخدمتها منصة لبثّ محتواها. والمفارقة الساخرة هنا أن الفضاء الرقمي الذي غذّى شهرتها وصنع منها “ظاهرة” هو نفسه الذي وثّق لحظة سقوطها.
حين يتحول “المحتوى” إلى قنبلة موقوتة
لا يمكن قراءة واقعة “أم مكة” بمعزل عن المشهد الأوسع الذي تعيشه منصات التواصل في مصر والعالم العربي. مشهد يغلب عليه “اللهاث وراء الترند”، حيث صار صُنّاع المحتوى – إلا من رحم ربي – يتسابقون إلى الابتذال أكثر مما يتسابقون إلى الإبداع، ويُغذّون الشاشات الصغيرة بمواد لا علاقة لها لا بالثقافة ولا بالترفيه الراقي، بل أقرب إلى “إفساد متعمد” لذائقة الأجيال.
في حالة “أم مكة”، لم يكن الأمر مجرد “فيديوهات عابرة”، بل سلسلة طويلة من المقاطع التي حملت في طياتها تشهيراً بالآخرين، وتجاوزاً سافراً لأخلاقيات المجتمع المصري، الذي ما زال – رغم كل ما طرأ عليه – يحافظ على “خطوط حمراء” لا يقبل المساس بها.
من البلوجر إلى السجين… انقلاب الأدوار
القبض على “أم مكة” لم يكن مجرد تطبيق لقانون، بل هو انعكاس لتحوّلٍ كبير في وعي الدولة والمجتمع تجاه “ظاهرة البلوجرز”. هؤلاء الذين خرج كثير منهم عن حدود “صناعة المحتوى” ليتحولوا إلى مثيري جدل محترفين، يعيشون على إثارة “البلبلة”، وجمع “المشاهدات” بأي ثمن، حتى لو كان الثمن هو سمعة إنسان أو أمن مجتمع.
اليوم، “أم مكة” التي طالما ظهرت في مقاطعها بخطاب متحدٍّ، تجد نفسها أمام مشهد مختلف تماماً: كاميرا أخرى توثّق لحظة القبض، وعدسات الإعلام التي كانت تطارد “ترنداتها” تسجل سقوطها.
ما بين القانون والضمير.. معركة يجب أن تُحسم
الدرس الأهم من هذه القضية أن حرية التعبير ليست فوضى، وأن الإبداع – مهما كان جريئاً – لا يمكن أن يقوم على هدم القيم وتشويه السمعة. القانون الذي تحرّك للقبض على “أم مكة” لم يفعل سوى أنه استعاد دوره الطبيعي: حماية المجتمع من الانفلات.
لكن المعركة لم تنتهِ بعد. فالحوادث المشابهة تتكرر يومياً، والمحتوى الهابط يجد دائماً منابر جديدة يتسلل من خلالها. المطلوب ليس فقط ردع المخالفين، بل إعادة تعريف معنى “المحتوى” نفسه، ومنح المساحة لصوت آخر – صوت يرفع الوعي بدلاً من أن يُخدره.
ما حدث مع “أم مكة” ليس نهاية حكاية بل بداية لسؤال أكبر: أي محتوى نريد أن نتركه لأجيالنا القادمة؟ وهل نسمح بأن تتحول شاشاتنا الصغيرة إلى ساحات “تشهير” و”ابتذال” أم نعيد إليها دورها الحقيقي كمنابر للتنوير والمعرفة والبهجة الراقية؟
لقد قالت الواقعة كلمتها بوضوح: مهما ارتفع صوت
“الضجيج الرقمي”، سيظل هناك قانون يضع النقاط على الحروف، ومجتمع يرفض أن يُختطف ذوقه على يد “ترند زائف”. فالقضية أكبر من مجرد بلوجر تم القبض عليها؛ إنها صراع على روح المحتوى، وعلى مَن يُشكّل وعي الأجيال القادمة.
اليوم، وبعد أن انطفأ بريق “أم مكة” تحت ضوء التحقيقات، يقف المجتمع أمام مرآته ليسأل نفسه: كيف وصلنا إلى هنا؟ وكيف سمحنا لشاشاتنا أن تتحول إلى مسارح للابتذال؟ قد يُسجَّل ما حدث كخبرٍ عابر في نشرات المساء، لكنه في الحقيقة علامة فارقة على بداية زمنٍ جديد، زمن يدرك فيه صانعو المحتوى أن “الحرية” لا تعني “الانفلات”، وأن اللهاث وراء المشاهدات لا يبرّر سحق الأخلاق.
ولعل أكبر ما تكشفه هذه الحادثة أنّنا أمام معركة وعي، لا يكفي فيها القبض على شخص أو محاكمة آخر، بل تتطلّب يقظة جماعية تصون الذائقة وتحمي العقول. فالمجتمع الذي يسكت على المحتوى المبتذل يفقد تدريجيًا حصانته، تمامًا كما يفقد الجسد المناعة إذا استسلم للسموم.
إن القبض على «أم مكة» ليس نهاية الحكاية بل بدايتها؛ بداية إدراك أن الشاشات التي بين أيدينا ليست مجرد أدوات لهو، بل مرايا تعكس قيمنا، إمّا أن نزيّنها بالصدق والوعي، أو نتركها مرتعًا للفوضى. وبين هذا وذاك، يظل القانون – مهما تباطأ – حارسًا يتدخل في اللحظة الحاسمة ليذكّر الجميع أن العدالة قد تغفو لكنها لا تموت أبدًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock