
بقلم احمد شتيه
باحث فى الشأن الاستراتيجى والامن القومى
في مشهدٍ يعكس تحولات جيوسياسية عميقة،
تشهد العلاقة بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو توترًا غير مسبوق،
وصل إلى حد اتهامات بالخيانة السياسية وتقويض المصالح الاستراتيجية.
هذا التوتر، الذي تفاقم بعد اتفاق ترامب المفاجئ مع الحوثيين في اليمن،
والمفاوضات المتقدمة مع إيران حول برنامجها النووي،
يُعيد تشكيل خريطة التحالفات الإقليمية ويُهدد بانهيار هشاشة وقف إطلاق النار في غزة.
فما أبعاد هذه الأزمة، وكيف تؤثر على مستقبل المنطقة؟
أثار إعلان ترامب عن توقيع اتفاق مع جماعة الحوثيين لوقف الهجمات على السفن الأمريكية
في البحر الأحمر غضبًا إسرائيليًا واسعًا،
خاصةً أن الإعلان جاء دون تنسيق مسبق مع تل أبيب،
التي اعتبرته تنازلًا أمريكيًا يخدم المصالح الإيرانية،
الداعمة للحوثيين ، ووفقًا لتحليل صحيفة “معاريف”،
فإن ترامب ضحّى بالمصالح الإسرائيلية لتحقيق مكاسب اقتصادية سريعة،
مثل خفض أسعار النفط وتأمين طرق التجارة،
في محاولة لاحتواء أزمات داخلية تُهدد شعبيته .
من جهته، وصف نتنياهو الاتفاق بأنه “خطأ استراتيجي”،
بينما أشار مسؤولون إسرائيليون إلى أن ترامب “ألقى بإسرائيل تحت عجلات الحافلة” لصالح صفقات تكتيكية .
هذه الخطوة كشفت عن تراجع النفوذ الإسرائيلي في صنع القرار الأمريكي،
ودفعت نتنياهو إلى التصعيد العسكري في اليمن كرد فعلٍ رمزي،
ما زاد من تعقيد المشهد الإقليمي.
تتصدر المفاوضات النووية مع إيران قائمة الخلافات بين ترامب ونتنياهو.
فبينما تسعى واشنطن إلى اتفاق جديد يحدّ من تخصيب اليورانيوم الإيراني بنسبة 60% مقابل رفع العقوبات،
تُصر إسرائيل على أن أي تفاهم مع طهران يُشكّل تهديدًا وجوديًا،
وتطالب بضربات عسكرية استباقية .
الأمر الأكثر إثارة للجدل هو اتهامات بتلاعب نتنياهو بمستشار الأمن القومي الأمريكي السابق، حيث حاول إقناعه بدعم موقف إسرائيل المتشدد، إلا أن ترامب رفض هذه الضغوط، معتبرًا أن الأولوية الأمريكية تكمن في تجنب حرب إقليمية قد تُعطّل صفقاته الاقتصادية مع دول الخليج ، هذه المواقف المتناقضة تُظهر أن التحالف الاستراتيجي التاريخي بين البلدين لم يعد بمنأى عن التصدعات، خاصة مع تحوّل ترامب نحو سياسة “أمريكا أولاً” بمعناها الاقتصادي الضيق .
تزامن التوتر الأمريكي-الإسرائيلي مع تصاعد العنف في غزة، حيث انهارت هدنة مارس 2025 بعد استئناف إسرائيل عملياتها العسكرية، ما أسفر عن مقتل مئات الفلسطينيين ، بينما يدفع ترامب لاتفاقية سريعة لوقف إطلاق النار تزامنًا مع زيارته للخليج، تُصر حماس على “اتفاق شامل” يشمل انسحاب القوات الإسرائيلية ورفع الحصار، وهو ما ترفضه إسرائيل .
المفارقة هنا تكمن في التناقض بين رغبة ترامب في إنجاز “صفقة سلام” تُعزّز صورته التاريخية، وإصرار نتنياهو على إضعاف حماس عسكريًّا قبل التفاوض.
هذا الخلاف أدى إلى تعطيل جهود الوساطة القطرية-الأمريكية، حيث اتهم السفير الأمريكي في إسرائيل حماس بـ”العناد” وعدم الاستجابة للمبادرات .
اختار ترامب دول الخليج – السعودية وقطر والإمارات – كمحطته الأولى في زيارته الإقليمية، متجاهلًا إسرائيل بشكل لافت . هذا القرار يعكس تحولًا في الأولويات الأمريكية نحو تعزيز التحالفات الاقتصادية مع دول النفط، التي تُقدّم حوافز مالية تفوق ما تُقدّمه إسرائيل .
التوتر المتصاعد بين ترامب ونتنياهو ليس مجرد صراع شخصي أو خلاف تكتيكي عابر، بل هو انعكاس لزلزال جيوسياسي يُعيد تعريف تحالفات المنطقة ، فاتفاق ترامب المفاجئ مع الحوثيين، الذي تجاوز فيه إسرائيل وحلفاءها التقليديين، ومفاوضاته الجريئة مع إيران التي تقترب من مرحلةٍ حاسمة، تُشيران إلى تحوّل جذري في الاستراتيجية الأمريكية ، من “الولاء المطلق” لإسرائيل إلى سياسةٍ تقيس التحالفات بميزان المكاسب الاقتصادية والأمنية قصيرة المدى.
من جهةٍ أخرى، كشفت أزمة الثقة بين الزعيمين عن هشاشة التحالف التاريخي بين واشنطن وتل أبيب، فما عادت إسرائيل “الحليف الذي لا يُمس” في عصر ترامب، بل أصبحت ورقةً قابلة للمساومة في لعبة المصالح الأكبر، تصرفات نتنياهو، من التلاعب بمستشاري البيت الأبيض إلى التصعيد العسكري في اليمن وغزة، تُظهر يأسًا من تراجع النفوذ الإسرائيلي، ومحاولةً يائسة لاستعادة الهيبة عبر القوة العسكرية.
لكن المخاطر هنا جسيمة: فتعثُّر وقف إطلاق النار في غزة، وتصاعد العنف في البحر الأحمر، وتفجُّر الملف النووي الإيراني من جديد، قد تدفع المنطقة إلى حربٍ شاملة، خاصة مع تنامي دور لاعبين جدد مثل تركيا ودول الخليج، التي تسعى لملء الفراغ بخطواتٍ قد تتعارض مع الرؤية الأمريكية.
السؤال الذي يلوح في الأفق هل يستطيع ترامب تحقيق “معجزة سلام” من رحم هذه الفوضى، أم أن شرق أوسط ما بعد التحالفات التقليدية سيكون ساحةً لصراعاتٍ أكثر دموية؟
في النهاية، يبدو أن المنطقة تقف على حافةِ تحولٍ مصيري: فإما أن تنجح البراغماتية الأمريكية في فرض هدنةٍ مؤقتة تُجمّد النزاعات، أو أن تنهار كل التوازنات القديمة، لتُولد من رحمها حقبةٌ جديدة تُكتب بدماء المدنيين وخرائطَ متغيرة، التاريخ لا يُكرر نفسه، لكن دروس الماضي تُعلّمنا أن تجاهل تعقيدات الشرق الأوسط قد يكون أعظم الأخطاء.
