تمكين المرأة من جذور البيت الراسخة والمبادئ الثابتة إلى صدارة المجتمع المتألقة
جريدة الصوت

بقلم د/ بسمة محمد حمودة
في الوقت الذي تسعى فيه الدولة، بكل طاقتها، لتمكين المرأة وتعزيز دورها في مختلف الميادين، من القيادة إلى التعليم، ومن المشاركة المجتمعية إلى مواقع صناعة القرار، تلوح في الأفق إشكالية غاية في الأهمية:
هل يكفي التمكين من أعلى؟ أم أنه لا يكون أصيلًا حتى يُبنى من الداخل؟
من البيت؟ من الوعي؟ من العمق؟
إن التمكين الحقيقي لا يُمنح، بل يُنبت.
لا يُؤتى به من المؤتمرات والقرارات، بل يُزرع في الطفولة، في التربية، في أول حوار بين أب وابنته، في أول مرة تُقال للفتاة: “أنتِ قادرة”، في اللحظة التي تُعامل فيها على أنها ليست كائنًا هشًا يجب حمايته طوال الوقت، ولا نسخة من رجل في طور التشكيل، بل إنسانة مكتملة بذاتها، مختلفة في عطائها، عظيمة بطريقتها.
التمكين يبدأ من البيت… حين يكون البيت أول ساحة للحرية الآمنة.
الفتاة التي تنشأ في بيئة ترى فيها الاحترام لا التمييز، الشراكة لا التسلّط، تُدرك منذ نعومة أظافرها أن لها كيانًا، ورأيًا، وصوتًا يجب أن يُسمع.
في حضن أم تُقدّر ذاتها، وأب يعاملها بكرامة، تتعلم أن الحياة لا تُنتزع فيها الحقوق صراخًا، بل تُمنح ثقةً حين يعرف الإنسان قيمته.
التمكين من الداخل لا يحتاج صخبًا خارجيًا.
بل يحتاج بناء داخليًا، راسخًا، يتكئ على ثلاث ركائز:
أولًا الهوية: أن تعرف الفتاة من تكون، دون خجل من دينها، أو جلد لهويتها، أو رغبة محمومة في التشبّه بغيرها.
ثانيًا الكرامة الحقيقية: تبدأ حين تحترم المرأة ذاتها قبل أن تطالب باحترام الآخرين، حين تختار كلماتها، وملابسها، وسلوكها بعقلٍ واعٍ وقلبٍ نقي، لا استجابةً لضغوط مجتمعٍ سطحي، ولا انبهارًا بثقافات مستوردة تُفرغها من معناها، ولا تقليدًا أعمى لما يُخالف فطرتها وقيمها. فالخطورة ليست في أن تقلد، بل أن تُقلد الخطأ وتغلفه بالحرية، أن تمشي وراء موجة لا تعرف إلى أين تقودها. الكارثة الحقيقية أن تفقد هويتها لتُشبه من ضلّ الطريق، وأن تظن أن الانسلاخ عن الأصل تطور، بينما هو في حقيقته انسلاخ عن الجوهر وطمسٌ للذات
ثالثًا الوعي: أن تفهم معنى وجودها كامرأة، ليس كرقم في معادلة العدالة، بل كعنصر أساسي في معادلة النهضة.
لسنا بحاجة إلى تمكين ظاهري تُقصى فيه المرأة عن أنوثتها، وتُدفع فيه نحو القوالب المستنسخة باسم الحرية.
بل نحن بحاجة إلى تمكين يُقدّر الاختلاف بين الرجل والمرأة، لا ليصنع فجوة، بل ليُعزز التكامل.
التمكين الذي أؤمن به ليس اقتحامًا لكل الساحات، بل اختيارًا حرًا لما يناسبها، دون إقصاء، دون ضغط.
ليس استعراضًا للمساواة الرقمية، بل صناعة للعدالة الحقيقية، حيث تُمنح الفرصة كاملة، ويُصغى لصوتها لا لشكواها فقط.
المرأة التي نريد تمكينها…
هي تلك التي لا تُشبه أحدًا، لأنها اكتشفت قوتها الخاصة، وعرفت أن التمكين لا يعني التخلي عن الأصل، بل الثبات عليه برُقي.
هي من تعلم أن القيم ليست عائقًا أمام الحرية، بل هي ضامن لها.
هي من تفهم أن اللباس الذي يحفظ كرامتها، والصوت الذي يحمل علمًا لا جدلًا، والموقف الذي يستند إلى مبدأ لا مصلحة… كلها علامات على تمكين داخلي ناضج، أقوى من ألف وظيفة.
إن تمكين المرأة لا يعني فقط دعمها خارجيًا، بل إعدادها نفسيًا، روحيًا، وفكريًا.
فكيف تكون مُمكنة إن كانت مهزوزة؟
وكيف تكون مؤثرة إن كانت تابعة؟
وكيف تبني أجيالًا وهي لا تزال تبحث عن ذاتها في مرايا الآخرين؟
نحن بحاجة إلى تمكين يُنتج نساءً واعيات، قادرات على أن يكنّ زوجات ناضجات، أمهات حكيمات، قائدات رحيمات، وباحثات عميقات، في آنٍ معًا، دون أن يُطلب منهن أن يتنازلن عن أنوثتهن في مقابل مكانتهن.
وأخيرًا، لست أكتب دفاعًا عن المرأة، بل إيمانًا بها.
إيمانًا بأنها لا تحتاج من يدافع عنها، بقدر ما تحتاج من يُنصفها.
إيمانًا بأنها – حين تُربى على الوعي – قادرة على أن تختار، على أن تصنع، على أن تترك أثرًا في كل مكان تمر به.
إيمانًا بأن التمكين لا يصنعه الخارج، بل يُبدأ من الداخل، من العمق، من البيت.
وهذا هو التمكين الذي أؤمن به…
تمكين يحترم الخصوصية، يُعزز الهوية، ويُثمر أجيالًا أقوى، ومجتمعًا أرقى.
تحياتي لكم الدكتورة بسمة محمد السيد حمودة