في بلادٍ تعانق الشمسُ ترابها كل صباح، وتزهر الأحلام بين ضلوع شبابها،
لا تزال مأساة الطالب الفقير تتكرّر كل يوم،
لكن بلا عدسات ولا عناوين. وما فاجعة “بنات كفر السنابسة” عنا ببعيد.
تسع عشرة زهرة، خرجن فجرًا لا للهوٍ ولا للترف،
بل لهدف نبيل: أن ينفقن من عرقهنّ على كتبهن، ومواصلاتهن،
ورغيف الخبز الذي لم يعد يسدّ جوعًا. رحلن جميعًا في حادثٍ على طريق الموت – الطريق الإقليمي – بعدما صمتت الجهات، وتقاعس المجتمع،
وغابت الرؤية العادلة لمن يجب أن يُنصف الطالب الفقير.
بين مطرقة الفقر وسندان الطموح
تعيش آلاف الأسر المصرية معادلة قاسية: إمّا أن تعمل بناتهم وأبناؤهم لتستمر مسيرة التعليم،
أو يتسربوا من التعليم في صمت قاتل.
وفي الحالتين، تذهب الكرامة أدراج الرياح،
وكأنّ التعليم – هذا الحق الأصيل – أصبح مشروطًا بالمقدرة المالية لا الكفاءة والطموح.
من حق الطالب أن يتعلم دون أن يدفع حياته ثمنًا.
ومن واجب الدولة والمجتمع المدني أن يقدّما نموذجًا للرعاية الحقيقية لا الموسمية،
الرعاية التي لا تكتفي بالحقيبة المدرسية في بداية العام،
أو كرتونة غذائية قبيل رمضان، بل رعاية تمتد لتغطية المصروفات،
وتأمين المواصلات الآمنة، وتوفير وجبات محترمة،
وتقديم دعم حقيقي للطالب وأسرة الطالب.
المجتمع المدني.. أين دوره؟
إن لم يتحرك المجتمع المدني في مثل هذه اللحظات، فمتى؟ إن دور الجمعيات الخيرية لا ينتهي عند توزيع “الكسوة”، بل عليه أن يُعيد صياغة فلسفة العطاء نحو الاستثمار في التعليم، في العقول، في المستقبل. على رجال الأعمال أن يموّلوا صناديق رعاية الطلبة غير القادرين، وأن يتبنّوا أسر هؤلاء الفتيات اللاتي رحلن في صمت، وأن يضمنوا أن لا تخرج طالبة أو طالب في الرابعة فجرا لتعبئة العنب أو قطف الطماطم من أجل دفع اشتراك باص المدرسة أو رسوم الكلية.
واجب الدولة.. لا منّة فيه
أما الدولة، فهي الأولى بالتحرك السريع. فالدماء التي سالت على طرقاتها ليست فقط نتيجة سلوكيات، كما يزعم البعض، بل ثمرة غياب التخطيط، وتراخي الرقابة، وغياب منظومة النقل الآمن، والأخطر: غياب العدالة التعليمية.
أين برامج الرعاية الاجتماعية للطلاب؟ أين الصناديق التي تُصرف على دعم التعليم من أجل هؤلاء؟ ما الذي يمنع أن تتحول كل محافظة إلى بيت كبير يضم أبناءها المتعثرين في التعليم؟ لماذا لا تُطلق مبادرة وطنية تحت رعاية الرئاسة لرعاية “طلاب لقمة العيش”؟ ولماذا لا تُربط تلك الرعاية بمستوى التفوق والعطاء لتعزيز ثقافة الجدّ والاجتهاد؟
من الحزن إلى المشروع
ليس كافيًا أن نقف حدادًا لدقيقة، ثم ننسى الحادثة كما نسينا عشرات قبلها. من حق هؤلاء الفتيات أن يُخلّدن في مشروع إنساني كبير يحمل أسماءهن، يُعنى برعاية الطالبات الفقيرات. من حق آبائهن أن يروا الطريق الذي خطف بناتهم وقد أُنير، وأُعيد تأهيله، وصار آمنًا لمن بقي.
وإذا كانت الدولة مسؤولة قانونًا، فإنّ المجتمع كله – إعلامًا، وأحزابًا، ومثقفين، وتربويين – مسؤول أدبيًا وإنسانيًا، لأن موت طالبة بسبب الفقر هو فشلنا جميعًا.
لأرواحهنّ السلام
لتكن دموع الأمهات المنكسرات طاقة نور تدفعنا جميعًا لنصرة الفقير المتعلّم. فالحضارة لا تُبنى إلا بالعلم، والعلم لا يُثمر إلا حين يكون متاحًا بلا شروط، ولا ضريبة دم، ولا رحلة شقاء لا تليق بطالب علم.
رحم الله كل زهرة قضت في سبيل كتاب، وكل قلب نبيل اختار الشرف طريقًا وسط الجوع.